مواسم الوجع

الوحدة : 22-9-2021

سأغرم بزوجي من جديد، نعم لقد قررت أن أفعل ذلك، فلا أحد مثله يستحق أن أغرقه بفيض محبتي واهتمامي وهو الحريص عليّ مثل طفلةٍ في المهد، ولكن قبل أن أبدأ بتنفيذ قراري لابد من أن أمد يدي إلى صدري… إلى الجهة اليسرى تحديداً لأقتلع قلبي من جذوره، بل يجب أن أحفر عميقاً بين مواسم الذهب الأبيض حفرةً كبيرةً لأدفن روحي فيها، وهكذا أعيش بعقلي فقط… بعقلي فقط يمكنني أن أُغرم بغيرِكَ.
اليوم اقترب زوجي مني بحذرٍ ونحن نقطفُ القطن .. لامس شعري بشفتيه وقال: أشعر أنك لا تحبينني .. والله والله هذا إحساسي.
الغريب في الموضوع أنني لم أحاول أن أكذّبه، لم أفكر في ذلك حتى… تألّمت لحقيقة شعوره، واكتفيت بالاستماع إليه وأنا أفصل القطن عن اللوز حتى أني نسيت ارتداء القفازات، ولم أنتبه لجرحٍ في يدي حتى لمحت اللون الأحمر يصبغ بياض القطن.
ضحكت وقد تذكرت قصة بياض الثلج، وتمنيت لو كانت لي ابنة بيضاء كالثلج ووجنتان بلون الدم لتكون صديقة قلبي ونظري، لكن الله اختار لي ثلاثة ذكور اختصروا شقاوة الدنيا في أعينهم البنية وسمرتهم الساحرة، فاستهلكوا جسدي وروحي.
أمسك زوجي جرحي، قبّله وضغط عليه، ارتجفتُ مصدومةً، سحبت يدي وأنا أسمعه يقول:
أعلم أني آذيتك كثيراً… وأعلم أنك ادعيت مسامحتي، ولكن على الرغم من اجتهادك في تأدية دور الزوجة والأم.. وحتى الحبيبة إلا أني متأكد أني فقدتك منذ زمنٍ بعيدٍ.
كان كيس القطن قد امتلأ، حملته وإن لم أكن راضية عن أدائي هذه المرة، فلقد احتوى إلى جانب القطن الكثير من بقايا الأوراق، وأكبر مخاوفي أن يكون فيها بعض ديدان اللوز التي لم نتمكن من التخلص منها نهائياً على الرغم من كل الإجراءات والتدابير التي اتخذناها.
حمل الكيس عني ووضعه جانباً… اقترب مني مجدداً وأجلسني على الأرض، كانت قطع القطن الصغيرة متناثرة حولنا، والنبات ارتفع عن المتر بنسبة جيدة.. لذا كان لابد لمن يرانا أن يظننا عاشقين يسرقان من الزمان لحظة حبّ وقبلة… بل إنه حاول أن يفعل، لقد أراد أن يسرقها مني، لكني تمنعت مثل طالبةٍ مراهقة تخشى أعين الرقباء.
لمته بنظراتي من دون أن أنطق بحرف ونهضت، ارتديت القفازات مجدداً وعدت للقطاف.
حاصرني من الخلف، فانفلتت من بين أصابعه كالزئبق… تخليت عن صمتي وقلت بصوت منخفض:
هذا لا يجوز يا حسن… الفتيان في الجهة الأخرى… قد يأتي أحدهم ويراك تتصرف بطريقة صبيانية، ما بك اليوم … هل جننت؟!
ضحك بألم قائلاً: إلى متى سأظل أدفع ثمن غلطتي، ألا يصفو قلبك يوماً، تحاولين أن يبدو كل شيء نموذجياً، تحرصين على أدق التفاصيل.. لكن فاتك أنك بدأت تفعلين كل شيء بطريقة آلية، بلا روح..
أخبريني متى قبّلتك آخر مرة؟!
أنت تتهربين مني..
هل أغتصب روحك حين ألمسك؟! أنا أشعر بهذا، لا أعلم ماذا يمكنني أن أفعل لأسترجعك، صرت أكره الخريف وأحسب لقدومه ألف حساب…
لا يمكنني أن أفقدك، ولست قادراً على استرجاعك، أنا عالق في برزخ بين الحياة والموت.
المشكلة أنك لا تفعلين أي أمرٍ خاطئ، تهتمين بكل شيء.. تخلصين في أداء كل مهماتك.. ولكنك لست سعيدة… روحك ليست هنا…
كأنك خلقت لنفسك كوكباً تعيشين فيه وحدك…
بدأ صوته يتقطع، وضع يده على صدره وتنهّد..
مسحت دموعي وعدلت من جلستي، احتضنت وجهه بين يدي…
أنا لم أكرهه يوماً، لكني ما عدت تلك العاشقة،وكيف أكون بعد أن خانني، وليته خانني مع امرأة أحبها، مع أخرى حلم بالزواج منها…
ليته اختار ندّاً لي تنافسني عليه، لكنه اكتفى بقضاء رغبة عابرة مع بائعة هوى أغوته في لحظة ضعف… ربما لم يعرف حتى اسمها.
أنا التي تركت عزّ أهلي ودلالهم لأتزوجه وأكون معه في قرية نائية، أتلفُ شبابي وصحتي في جني مواسم الوجع الواحد تلو الآخر، أهتم بصحة والده العجوز، أربي الصغار، أعود من وظيفتي الحكومية المقيتة خائرة القوى لكني أظل واقفةّ بابتسامة لا تفارقني لأني أرفض أن أرى في عين أحد الشفقة أو الشماتة… خانني بكل بساطة وجاء يعترف طامعاً بالمغفرة ومتأكداً منها لأن مجتمعنا يغفر للرجل كل زلاته، ويجيز له الفرص الجديدة دائماً، لذا انغلقت على نفسي ثلاث سنوات أجتر ألماً يذلني ولا أقدر على البوح به لأحد.
حتى أنتَ يا أحمد وعلى الرغم من قربك الكبير من روحي، لم أجرؤ يوماً على البوح لك بما يعتريني من وجع، كنت أنتظر قدومك إلى الوحدة الإرشادية كل أحدٍ بفارغ الصبر، ويرقص قلبي حين أُكلف بمرافقتك في جولتك على الأراضي والمزارعين، كان ذلك الأمر الوحيد الممتع في هذه الوظيفة.
لم أظن أن قلبي سيفتح أبوابه مرة ثانية… ثلاث سنوات كانت كفيلة بتعطيله للأبد، لاسيما وأنني امرأة مملوءة بالالتزامات… لا وقت لدي لجديد… لا وقت لدي لنفسي، ثم فجأة وجدت نفسي معك، وخلقت لك وقتاً في زحمتي وضغوطاتي.
كنت أصغي إليك وأحلّق، تطربني لهجة الإعجاب في صوتك وأنت تتحدث عن ثقافتي وجبروتي وإلمامي بتفاصيل عملي كلها.
تعلقت بك حتى صار ذلك اللقاء الأسبوعي تنفسي ومحور حياتي التي صرت أحياها بانتظاره، لكن الشعور بالذنب لم يفارقني لحظة.
ظللت أتساءل: هل أنا خائنة لزواجي وأمومتي؟!
هل عشقي لك بيني وبين نفسي يعتبر خيانة؟!
هل تنفسي لهواك العذريّ في عالمي الافتراضي الخاص بي ذنب سأحاسب عليه..؟!
لا يمكنني أن أخبرك عن خيبتي وانكساري حين كنت تتغيب عن الحضور، لا يمكنني أن أخبرك كم رسالة كتبت مثل هذه ومحوت…
كم مرة طلبت رقمك وتراجعت، لم أرد أكثر من الاطمئنان إلى أنك بخير… أردت معرفة أنك ستعود في الأسبوع التالي، ولن ترحل مثل كل الأشياء الجميلة التي غادرتني في الحياة إلى غير رجعة.
لكني لم أفعل، كنت أنتظر.. أنتظر، فأنا كما غنت فيروز: بشتاقلك لا بقدر شوفك ولا بقدر أحكيك…
نعم التزمت الصمت لأن ما بي وجع لا يُشتكى لأحد منه ولا يُبكى عليه.
نعم… خرجت من عالمي ولم تعد تزورنا في الوحدة الكئيبة، لقد حصلت على ترقية وانتقلت إلى العاصمة، وصار الأحد يوم الذكرى والألم، ففارقتني روحي للمرة الثانية، وأغلقت قلبي عليك للأبد.
لبست قناعي مجدداً، وقلت لزوجي:
ألن تتوقف عن حساسيتك…
إنه أيلول، وفي أيلول تتجدد أحزاني رغماً عني….
اتركني لنفسي قليلاً وسأتحسن.
حبنا أمرٌ لا نقاش فيه، لكنّا ما عدنا صغاراً لنعيش هذي الطقوس مثل المراهقين، هل سنأخذ زمننا وزمن غيرنا؟!
سألني بخوف: أما زلت تحبينني؟!
أغمضت عيني على صورة عينيك المزروعة في شبكيتي عينيَّ، وأنا أخبره: أحبكَ.. أحبكَ… أحبكَ…

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار