الوحدة 31-8-2021
ثمة اعتقاد راسخ في الأذهان مفاده أن الفلاسفة والمفكرين هم أكثر عقلانية من بقية الناس لكونهم يهتمون بحياة العقل وإنتاج الأفكار، فهم يُمثلون عقول الأمم، ويعكسون فكرها، إضافة إلى رحلة العقل ومغامراته التي تتجلى في نتاجات العلماء وأعمال الفلاسفة دون سواهم، وانطلاقاً من مأثور القول الآتي: ما قَسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، يتجلى التمييز الذي أقامه القدامى بين العلم والعقل كقولهم عند تقييم الأشخاص إنسان عقله أكبر من علمه بمعنى أن ذكاءه أقوى من ثقافته، أو بقولهم العكس إنسان علمه أكبر من عقله، بمعنى أن معلوماته وثقافته أوسع من فكره وفهمه، وهذه الشواهد تجعل المرء يعود مُتراجعاً عن ذلك الرأي السائد القائل بأن عقل المجتمع يمكن أن تحتكره فئة واحدة من الفئات المجتمعية، فالعقل هو حيلة الإنسان في آلية التعلم والتمرس وفي الفهم و الرؤية وكذلك في الحساب والتقدير وأيضاً في الحياة وفي المصير فكل واحد يستخدم عقله في حياته الشخصية وواقعه اليومي وفي مجال عمله وقطاعه الإنتاجي ولا يستأثر قطاع محدد باحتكار النشاط الفكري أو استعمال العقل دون سواه، ويمكن القول بأن العقل يتجلى في المنتوجات المادية أو الرمزية بمعنى أنه يُثمر في رسم إبداع النظريات كما في ابتكار التقنيات وفي نَظم القصائد وتشكيل اللوحات كما في وضع القوانين وسن التشريعات وأيضاً في تأليف الأنساق المعرفية والأعمال الفلسفية كما في علوم إدارة الأعمال والصناعات المهنية
لا يتميز العاملون في ميادين الفكر وفروع المعرفة عن بقية القطاعات الاجتماعية المختلفة من حيث العلاقة بالعقل سوى في ميدان الاختصاص ومجال الاستخدام فالناس على وجه العموم يستخدمون عقولهم في دوائر اختصاصاتهم المهنية وتسيير حياتهم اليومية كما هو حال التاجر والمدير والصانع والبائع وحتى عند ربة المنزل، في حين أن العلماء والمفكرين يستخدمون عقولهم للبحث في المنتجات الفكرية والعقلية والنظر في شتى شؤون العقل نفسه كما يفعل معظم الفلاسفة الذي يشتغلون بجدية على عالم الأفكار ويهتمون بتعريف العقل و تحليل ملكاته ودرس إمكاناته، وهناك فئة خاصة جداً تستخدم عقولها بصورة عامة كما هو حال الكاتب والإعلامي الذي يهتم بالقضايا العامة التي تعني كل مواطن فيُثير أسئلة تهم كل إنسان حول الواقع والحياة والألم والأمل، وانطلاقاً من هذا التمييز يجد المرء نفسه أمام نوعين من العقول لكل نوع مجاله وفاعليته فهناك العقل العام الذي يُسمى بالعقل اليومي ويستخدمه كل شخص في مزاولته لمهنته أو لتدبير شؤونه الخاصة به وعقل يُسمى اختصاصياً يستخدمه المثقفون في طرح أُطروحاتهم ونشر أفكارهم وهذا العقل يمكن تسميته بالعقل المهني وذلك كون أصحابه يمتهنون العمل بالفكر وشجونه ويشتغلون بالإنتاج الفعلي وألوان السلع الرمزية والنظريات والمناهج والمعايير والنماذج.
لا جدال في أن هناك فارقاً لا يُستهان به بين رجل العلم والفكر وبين بقية جموع الفاعلين الاجتماعيين من حيث الصلة بالعقل، فالأول يهتم بدرس المجتمع وتحليل الواقع بصورة تُؤدي إلى إنتاج الأفكار وبلورة المفاهيم التي يتعرف من خلالها الجميع على نفسه ولكن هذا لا يعني بأن رجل الفكر هو أعقل من سواه فلكل شيء وجهه الآخر بمعنى أن امتهان العقل هو عمل قد ينقلب إلى نقيضه كما يشهد حال العديد من الفلاسفة أصحاب العقول عند سجن الفكر في قوقعة الأنا بحثاً عن مفاهيم محضة أو عن مُثل خاوية أو ماهيات متعالية، كما ويُعد التعلق بالعقل والاختصاص بالفكر والتفرغ للبحث أمور لها ثمنها فهي تتم على حساب المعرفة وبقدر ما تُؤدي برجل العلم والفكر إلى الانسلاخ عن التجارب تكون النتيجة بأن العالم يتغير بسرعة لا نظير لها وبعكس كل ما يُفكر له.
يجدر القول بصدق بأن التفكير في الواقع الحياتي الحالي لا ينفك عن التأمل ملياً في واقع الفكر نفسه بما في ذلك جدلية العلاقة المتبادلة مع أصناف الأفكار وتلك هي المفارقة حيث أن الانسان ينشغل بالفكر ومشكلاته حتى تصبح حراسة الأفكار وفرض أنواع المبادئ والقوالب الجاهزة وكذلك المعايير والقياسات المعيشية صوراً من أشكال الظواهر المُراد تعميمها من خلال إعادة تشكيل الأُطر المفهومية والأدوات المنهجية، ومن الجدير ذكره بأن ما تشهده البشرية من أقسى أشكال صور العنف والفوضى وألوان التشتت وأشكال الضياع يتجلى بوضوح في آلية صناعة نمط الحياة في مختلف أنشطتها ومجالاتها، وإذا كان العقل يتجلى بصورة حقيقية ناصعة البياض في أزهى نتاجات أهل العلم والفكر فإنه يتبلور على نحو أخص في تحرر المثقفين والمفكرين من أوهامهم ومزاعمهم حول طبيعة العقل ومسيرة الثقافة.
د. بشار علي عيسى