الاستلابية.. ثقافة القرية الكونية

الوحدة : 12-5-2020

في السابق كانت الكلمة هي الوسيلة الوحيدة لتشكيل وعي المجتمع بواسطة الطباعة والنشر والتوزيع والانتشار، لتأتي الثورة الرقمية، لتجتاز الحواجز والسدود، وتلغي المسافات، وتخلخل القطاعات الثقافية، وتزعزع منطقها الوظيفي، وتجعل العالم بين أيدينا، وبنفس الوقت أقصته عنا، وصار العالم قرية كونية صغيرة، وسوقاً واحدة متعدد البضاعة، وساهمت في إعادة تشكيل المشهد الثقافي، وإقامة علاقات جديدة بين التقنية والإنسان الذي صار أكثر ارتباطاً بالأنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي يجري عبرها تبادل الآراء والتعليقات في الفن والأدب والموسيقا والألعاب والاقتصاد والسياسة، وما على الانسان إلا التعايش مع الحقائق الجديدة، وأساليب العمل والحياة التي خلقتها التكنولوجيا.

الثورة الرقمية واقع فرض سطوته وأهميته، وأثرت على الثقافة والوعي الفردي والمجتمعي، حيث بدأت معرفية، وقدمت فرصة لتحسين تفاعل الجمهور وتحويل المزاج العام في المجتمع، وتحولت استلابية كتيار جارف يجرف كل ما يعترض طريقه، وصارت هي الأخطر في كل ما تمّ إنجازه من علوم واختراعات.

فورة غزت الأرض والفضاء وكل بيت وكل شيء، وصارت الحاكم الفعلي للإنسان عبر تطبيقاتها، تتجه مسرعة نحو عالم مازال غامضاً، يمشي في نفق مظلم لا أحد يدرك نهايته ومستقره، ولا أحد يعلم أين ستنتهي، وصار العالم قرية مصغرة بمكتبة معلومات ضخمة تحوي ثقافات الغير وحضاراتهم، ومدير هذه القرية الكونية يحول البشر إلى رموز في صناديق مغلقة في حركة تبادل السلع والبضائع، والإنسان مجرد رقم على بطاقات العمل والبصمة والمصارف والسوق والتسوق.

الإنجازات العلمية نعمة كبرى تخلص الإنسان من شقائه حين تكون بأيد خبيرة تعرف كيف تستخدمها، ولها الدور الكبير في بلورة الوعي في المجتمعات البشرية كلها بصرف النظر عن معايير التقدم والتخلف فيها وهوياتها وسماتها، وانتهاك القيم التي تشكل الخصوصيات الفكرية للأمم والشعوب ونسف أعرافها وتقاليدها واستبدالها بحلة وحالة كونية جديدة، وفرضت تحولات على الإنسان من الطفولة إلى أعلى وأعتى مراحل العمر.

المعلوماتية صارت الآن الأساس في صناعة الحياة الخاصة والعامة للمجتمعات الإنسانية ودورها الكبير وتوظيفاتها في حياة الناس وشؤونهم، فورة معلوماتية تحمل قيمها الإيجابية والسلبية تحولت إلى أداة حرب ناعمة فتاكة تدمر بهدوء ودون ضجيج تستهدف الجسد وتستلب العقل، ودخلت إلى أدمغة البشر كلهم من الطفل إلى الكهل، غايتها عقل الإنسان ومشاعره وعواطفه وكيفية التحكم به وبسلوكه وتحريكه والسيطرة عليه، وأدت إلى اشتداد أوار الجهل والتناحر والعنف والتطرف وشيطنة المجتمعات وانهيار الأفكار والأخلاق والقيم وسيادة القبح والظلام والأحقاد، كل ما ينجزه العلم سلاح خطر ذو حدين، يسعد أو يتهدد مصير البشرية كلها، وخاصة أننا نعيش في عالم متوحش لا مكان للضعفاء فيه، وجاءت الثورة الرقمية لتزيد الطين بلة حيث يقوم الغرب بتصدير إنجازاته الرقمية التي ستقود البشر إلى آفاق مجهولة أو تقربه من لحظة تهور كارثية، ناهيك عن قصور العقل العربي وعدم امتلاكه العدة المعرفية الكافية لمواجهة عصر السرعة والمعلومات وتعقيداته وضعف القطاع الخاص العربي في اقتحام مجال التقانة الرقمية وتطبيقاتها وخدماتها بعد أن صار الانسان أسير تقنياتها ولا يمكنه الانفكاك عنها ويتأثر بأيديولوجية ما تفرضه قوة وثقافة هذه الآلة الرقمية التي يتعامل معها.

مواجهة هذه الثورة مسؤولية جماعية لتحصين الأجيال والتمسك بالثقافة والعادات والتقاليد الأصيلة واللباس والتراث لتفكيك وخلخلة تعقيداتها الشائكة والمتشابكة وصياغة نظام تعليمي قوي لمواجهة هذه التحديات للسير بمجتمعاتنا العربية نحو الأمام والأفضل، وألا نسلم أقدارنا للأعداء والأقوياء، فعندما نكون أقوياء ومحصنين جداً لانصاب بعدوى الآفات والأوبئة والأمراض السامة والفيروسات البيولوجية القاتلة كالكورونا وغيرها، وكما قال غاندي: أسمح للضوء دخول نافذتي، لكني لا أسمح له باقتلاعي من جذوري.

 نعمان إبراهيم حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار