العـــــدد 9526
الاثنيــــــــــن 10 شــــــباط 2020
هل نجرؤ على وضع معيار جديد للتفوق، وهل يقبل أحدنا أن يقتصر تفوّق ابنه على الرياضة أو الرسم أو الموسيقا، وهل يعترف المجتمع بهذا النوع من التفوق؟
سنقفز في المكان والزمان، ونظنّ أن أحلامنا أو (أوهامنا) كلّها ستتحقق، ولن ينزل أبناؤنا تحت سقف مهن محددة (أطباء أو مهندسون)، أو ما اقترب من هاتين المهنتين، وفجأة يضطر أحدنا إلى إصلاح حذائه فيجوب حيّاً أو اثنين وربما أكثر ولا يجد (سكافياً) فيعود أدراجه محاطاً بأسئلة لا يعرف لها أي جواب!
قالوا في الأمثال: (إذا كنتُ أنا أمير، وأنتَ أمير، فمن سيرعى الحمير؟) في دلالة واضحة إلى أن أي حالة حياتية تتطلب تنوعاً على أوسع نطاق وإلا فإن هذه الحالة ستعرج لا محالة، لكننا ووفق ما نلزم أنفسنا به تجاه أبنائنا، فإننا نضع كلّ العراقيل بوجه هذا التنوع، ونكاد نذهب إلى (كساد معرفي)، وإلى لون واحد (أو ألوان محدودة جداً) ما سيسبب لاحقاً خللاً ما في بنية المجتمع…
في ملفّ (التفوّق) الذي أعدته مجموعة من زميلاتنا يُختصر التفوق الدراسي بتحصيل العلامات لا بتحصيل المعلومات، ونقرّ كأهل بأنّ العلاقة هي الدليل الوحيد على هذا التفوق، وكلّنا معذورون في ذلك، إذ أنّ الدخول إلى الجامعة لا يكون إلا على مجموع العلامات بغض النظر عن الآلية أو الظروف التي جاءت بها هذه العلامات!
اضطررنا إلى حشو عقول أطفالنا بـ (كمّ هائل) من الجمل والعبارات والحلول ولو (نسخ لصق)، المهم أن يصلوا إلى قاعة الامتحانات وفي رؤوسهم ما يفرغونه على ورقة الإجابة، ولو أفرغوه من رؤوسهم نهائياً بعد ذلك..
وزارة التربية انتبهت إلى هذا الأمر، وحاولت استنباط أنواع جديدة من التعليم، لكنها لم تستطع أن تحرر مخرجاتها من قيد (العلامة) فاستسلمت الأدوات الجديدة إلى حكم المعايير القديمة بدل أن يحصل العكس، لنعود ونبرر لأنفسنا كلّ ما نطلبه من أبنائنا (.. احفظ، حصّل علامات بأي طريقة)، فحتى الهدية تأتي على مقاس العلامة!
في سياق متصل، فإننا نظلم أنفسنا ونظلم أبناءنا عندما لا نؤمن بالفروق الموجودة بين الأبناء، ويطلب كلّ منا من ابنه أن يحصل على العلامة التامة، هناك استعداد متفاوت لدى الأبناء، ولا تتم كلّ الأمور بالإكراه…
تفاصيل أخرى تدخل في تركيب هذه المعادلة، ومن الضروري أن نكون على بيّنة منها:
* الظروف المنزلية التي تحيط بدراسة الأبناء مؤثرة جداً على تحصيلهم الدراسي، وبالتالي قبل أن نطلب التفوق من أبنائنا لنراجع أي ظروف هيّأنا لهم في دراستهم.
* متفقون على أن المدرسة ولأسباب عديدة ومختلفة لم تعد على مسافة واحدة من جميع طلابها، ولم تعد قادرة على إنجاز دورها بالشكل الأمثل، وبالتالي فإن الدروس الخصوصية أصبحت هي الموّجه وبنسبة كبيرة لهذا التفوّق وهنا يلعب العامل المادي للأهل دوراً كبيراً بالنسبة للتفوق.
* الغش (مسبق الدفع) حاضر وإن كان من الصعب إقامة الدليل عليه، لكن لا أحد ينكر أنّ حديثاً واسعاً يحضر كلّ سنة عن شراء مراكز امتحانية أو عن اتصال عن بعد أو مصغّرات.. إلخ.
لن نغوص في البنى التحتية للعملية التدريسية وأثرها على التفوّق، لكننا بنفس الوقت لا نستطيع تجاهلها، إذ أنه من غير المنطق أن يخضع لنفس المعايير والأسئلة طالب يدرس في مدرسة المتفوقين وآخر يدرس في قاعة مشتركة مع طالب من غير صفّه!
التفوق هو في 50% منه نتاج منظومة متكاملة وليس حصراً بإمكانيات فردية أو ظروف أسروية، وحتى نجيز لأنفسنا التمييز والغربلة ومنح أوسمة التفوق أو حجبها علينا أن نوفّر مدخلات متشابهة إلى أبعد حدّ قبل الحكم على النتائج.
نتمنى النجاح والتفوق لجميع أبنائنا، وقبل كلّ شيء نتمنى أن نقنع أنفسنا أنّ ثمة (سمكري) ما ناجح أكثر من طبيب وليس شرطاً أن يكون جميع الأطباء من المتفوقين في مجتمعاتهم.
غانم محمد