بين الشط والجبل .. التوحش والأنسنة

الوحدة:14-11-2021

أصبح لزاماً علينا حماية أنفسنا من توحش ذوي المصالح، وأصحاب الخبرات في تغليف الأنانية المفرطة بالمثالية، وادعاء المشاعر الفياضة بالنبل، مع وجود مساندين دوماً لتوحش الآخر، ومسايرته لتحقيق مصالحه المريضة مادامَ هناك مقابل.
وجهٌ مخيفٌ يخبرنا أن لا حدودَ للتوحش الذي يسكن النفس البشرية، التوحش الذي يفوق توحش الحيوانات بمراحل، فالحيوانات المفترسة ذات الأنياب الحادة لا تفتك بفريستها إلا في أوقات محددة، ولهدف محدد هو الجوع، بينما الإنسان لا يكتفي بالقتل من أجل لا شيء، بل يبتكر أساليب نفسية ومعنوية، ويبالغ في تطوير وسائل التعذيب، ليصل إلى ذروة لذة العنف، تلك الغريزة التي لا توجد إلا في الجنس البشري.
إن التوحش الإنساني الذي سرى سريان النار في الهشيم، تمارسه البشرية متسترة خلف ديدن الحب والتواضع والتكافل وادعاء التمدن والتحضر.
لم يدرك الآخرون مسؤوليتهم تجاه نفسهم وأهلهم ومجتمعهم، ولم يكونوا بالوعي الكافي ليلتزموا بتعليمات الأنظمة فيما يخص النظافة وعدم إلحاق الأذى بغيره عبر الاستهتار الصحي، كأدنى حد من المساهمة في المشاركة من الحد من استنزاف الأرواح وانفلاتها من بين أيدينا.
إن صيغ التدافع والتنازع والتقاتل والتزاحم على متع الدنيا، يرصد تساقط الأرواح كورق الخريف على الأرصفة.
ففي الوقت الذي اعتقدَ الإنسان أنه بلغ مقام الألوهية في قدرته على التحكم في العالم من حوله، إن لم يكن العالم كله، في تسييره بما يخدم رغباته وخططه واستبداده على المدى القصير أو البعيد، كانَ رعبُ كيانٍ مجهري واحد كفيلاً بأن يذكره بأنه أبعد وأضعف من أن يفعل ذلك.
إن الأمم تدور صعوداً وهبوطاً بين التأنس والتوحش، وإن كانت الغلبة للتوحش، توحش الإنسان للاستهلاك والمعاملات التجارية المشبوهة من تكديس للسلع ورفع أسعارها، وتزوير العملات والغش الامتحاني والتطفيف في الموازين المادية والاجتماعية، والسرقة ولعب القمار..
فتنهدم القيم ويتفكك النسيج الاجتماعي، وندخل في ذروة من التوحش، تصح فيها الغلبة للأقوى وليس للأصلح.
إن توحش قيم التخلف وطغيان التكنولوجيا أدى لطحن الإنسان بداخلها، وملأ مساحات واسعة في هذا الداخل، من قيم الكراهية، الغيرة، العصبية، العنصرية، الإرهاب، الاستبداد، الابتزاز.
إن الحركة الرأسمالية السريعة، ساكنة في أصغر تفاصيلنا، تغوينا باللافتات من (عروض واشتراكات ومنتوجات الكترونية) ليزداد الاستهلاك وتزداد سيولة الثقافات وتحكم القبض على مساراتنا اليومية.
إن تاريخ تطور البشرية ما هو إلا محاولات الإنسان للهرب من الوحش القابع في أعماقه، وإن التيارات والحركات الثقافية والأدبية والفنية، فضحت العنف وسلطاته، وحاربت التوحش في مكامنه الخفية عن العامة.
وإن تاريخ دأب الإنسان على معاملة الأخرين بعنف وسادية، دليلٌ على هذا التوحش القابع لديهم، رغم محاولات إخفائه.
الأنتي يوتوبيا التي نعيشها اليوم بسبب غياب الثقافة، ونتيجة الفوضى الاجتماعية، وبسبب القضاء على الإبداع وأهله هو باب جديد من أشكال التوحش.
ولايزالُ بإمكاننا أن نوقف مد العنف والتوحش باستعادة الأنسان الذي فينا، الإنسان الذي يجب أن يستخلص حريته من براثن الحضارة المتوحشة التي نعيشها حالياً، علينا أن نحاربَ ذلك الوحش الكامن في دواخلنا، واستعادة أنسنة الحياة.

تيماء عزيز نصار

تصفح المزيد..
آخر الأخبار