الوحدة 2-11-2021
مما لا شك فيه بأن قضية الاختراق الثقافي أصبحت تُمثل إحدى أحدث آليات الهيمنة في العصر الحالي، ورغم أن هذه الهيمنة ليست بجديدة ولكنها بدأت تأخذ أشكالاً مختلفة عبر مراحل الأحداث المتتالية والأوضاع الحياتية المُتعاقبة، وفي واقع الأمر فإن الثقافة كانت مُستهدفة من خلال تأثيرات العولمة التي حملت عدداً كبيراً من أعتى المخاطر الثقافية التي تُهدد المنظومة التراثية والمعاصرة، وقد ازداد بحدة مفعول التأثير السلبي خصوصاً في ظل عدم احترام الطابع المُميز لمختلف الثقافات وفرض أنماط ثقافات غريبة وأيضاً محاولة إظهار تفوقها على الثقافات العريقة الأخرى من خلال إقناع أغلب الرواد والمُفكرين بأنه لا بديل أمامهم سوى الاقتباس والانبهار بتراث تلك الثقافات وتعلم أصول لغتها والنقل الحرفي لمعظم مؤسساتها التربوية والإدارية والاجتماعية، وقد ترتب على مجمل ذلك ظهور أنساق جديدة للثقافة روجت لها بعض النخب المُندرجة تحت علاقات المحسوبية وشعارات الاستقواء بالقوة كما وتحكم كل أعرافها وأخلاقها العصبيات والولاءات وذلك على حساب التراث العربي ولغة الضاد ومع ملاحظة فقدان المشروع الثقافي لاستقلاله وعدم تبنيه لاستراتيجية ثقافية فاعلة ومُؤثرة في ظل عجز معظم النخب الثقافية عن تجاوز الانشطار الثقافي في الواقع الراهن وعدم صياغة مشروع ثقافي حضاري شامل ومتعدد المراحل لبناء التراث الثقافي من رحم المجتمع، فإن أبرز ما يُميز الاختلال الثقافي يتمحور في أن حروف الثقافة المحلية ولُب روحيتها أصبحت أكثر عرضة لخطر هذا التفتيت الثقافي بل إن هذا الخطر بدأ يفعل فعله وينخر بقوة وشراسة في بعض أجزاء المجتمع مما يهدد عمق التماسك الوطني والفسيفساء المتنوع لمكوناته.
يتضمن المستوى الإجرائي لحماية الثقافة عموم الوسائل والأساليب التي يتبناها كل مجتمع على حدة وبقدر ما تبرز الأهمية القصوى لرسم السياسات والخطط التي تُترجم التصور الاستراتيجي العام لتحصين الثقافة وحماية كيانها فإن هناك ضرورة مُلحة أيضاً لتحديد أبعاد هذه السياسات وما تستلزمه من نمط إجراءات عملية قابلة للتنفيذ ويمكن إيجاز أهمها وأنجعها فيما يلي:
– إعداد دراسات وأبحاث تُوضح الإطار العام لخريطة المنابع الثقافية الرقراقة التي تُقدمها شتى وسائل الإعلام المرئي والمسموع و كذلك الالكتروني والتواصل الاجتماعي للاستعانة بنتائجها في إعداد الاستراتيجيات الثقافية المناسبة.
– تأهيل كوادر مدربة ومزودة بالرؤية الثقافية الصحيحة للتمكن من مواجهة الاختراق الثقافي الخارجي، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال ترسيخ برامج التعليم والتدريب العصرية مع التأهيل الإعلامي الاحترافي الذي يُلبي الاحتياجات الثقافية لعموم شرائح المجتمع.
– صياغة سياسات ثقافية وتعليمية تُراعي الجميع في خصوصياته الاجتماعية والتربوية مع الحرص التام على ترجمة هذه السياسات إلى نماذج برامج مشتركة واجبة التنفيذ عملياً تحت إشراف الجهات المعنية.
– تشجيع غالبية الاتحادات المهنية في مجالي الإعلام والثقافة وفي مقدمتها اتحاد الصحفيين وكذلك اتحاد الكتاب على تفعيل أدوارها الجوهرية في توثيق وتعميم شتى الأنشطة الثقافية والإعلامية ذات الطابع الجماهيري.
– الاهتمام الجاد بإنتاج برامج إعلامية مشتركة تحتوي على مضامين ثقافية قادرة على محاكاة كل الفئات المجتمعية والمدارس الفكرية والشرائح العمرية بغية مشاركة الجميع من أعلى النخب المثقفة إلى أقل الناس معرفة ودراية.
– تشكيل لجان مهنية من خيرة الإعلاميين والمثقفين للإشراف على صور إخراج النتاج الأدبي كي يظهر بمستوى إبداعي رفيع وشكل حضاري راقٍ وتوجه ثقافي هادف.
د. بشار عيسى