وقال البحر … عالم الرموز

الوحدة 3-2-2021

 

يتميز المجتمع العصري والمعرفي القائم على استغلال واستثمار كل أشكال وألوان المعرفة المختلفة، وتحويلها إلى فكرة مشاريع قادرة على إنتاج وابتكار سلع قابلة للتداول والبيع في شتى الأسواق بمميزات عديدة تنعكس إيجابياً على نمط أفراده الذين تُؤرقهم مشاكل البحث عن كل جديد وأفضل ومميز بشكل مستمر مع هاجسهم الدائم والحثيث في نقل سيل كل المعلومات على اختلافها إلى معارف ومصطلحات وجملة إشارات قابلة للاستخدام والتبويب المعرفي والاستثمار في كل ميادين الحياة والتسويق في عالم التجارة ومضمار الأعمال لتُشكل فيما بعد بحق رصيداً زاخراً لتستفيد منه أكبر الشرائح المجتمعية وعموم الفئات العمرية والأجيال البشرية وتفيض من كل ذلك أشكال المعلومات ورموز التلميحات بأبعادها وأعماقها ودلالاتها ومكنوناتها وغزارتها واتساعها. 

يتساءل المرء كثيراً بدهشة عن صُلب الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ظهور هذه الإشارات والرموز بين شعوب العالم، فهل فعلاً كان سببها المشارب الفكرية أو العقائد الدينية أو العادات المجتمعية، وهل للأنظمة السياسية والأنماط الثقافية دور في توجيهها للانتشار والتطور مع تغير الزمن في مستوى الثقافة ودرجة الوعي والمواكبة العصرية لدى عموم نماذج الشعوب في شتى أصقاع الأرض، وانطلاقاً من عبارة: (العلامات والرموز هي ما يحكم العالم وليست الكلمات ولا القوانين) والمنسوبة إلى أحد الفلاسفة القدماء، فإن ما فعلته الأيام والأعوام في الوقت الراهن يكمن في زيادة غابة الرموز كثافة وجعل معظم العلامات والأشكال مفاتيح لأبواب الحياة في خضم العصر الحالي من خلال الدور الهائل الذي تلعبه في سياق تفاصيل الحياة اليومية مع اكتشاف الفرق والتمايز بين قوى تصنع التاريخ وأخرى تقع أسيرة له ومكبلة به.

من المعروف للجميع بأنه لكل شعب رموزه الوطنية ابتداءً من علم البلد بكل ألوانه وشعاراته إلى النشيد الوطني بكل حروفه وكلماته إلى العملة الوطنية الورقية والمعدنية بكل فئاتها، كما أن هنالك رموزاً خالدة عبرت يابسة القارات وتجاوزت مياه المحيطات وباتت حقاً شعارات أممية على مر العصور والقرون، ويُلاحظ بأن الرموز منها ما هو عابر وظرفي في أصقاع العالم ومنها ما يغور في عمق التاريخ البشري ويكتسب قداسة معينة ومكانة مميزة ويشير بإصبع البنان إلى عمق الدلالة الواضحة لدى بعض الشعوب، ولا يخفى بأن أشكال الرموز تحولت إلى أدوات رئيسية في عالم الفنون والعمارة وكذلك ميدان الإعلام ومجال الإعلان وأبواب الأشعار وقواميس الأدبيات وقطاعات أخرى متعددة ويكاد لا يخلو سجل تاريخ وحضارة أي بلد من النقوش والرموز على الفخاريات والموزاييك والخشب والمعادن والآثار الخالدة والأوابد التاريخية الباقية، ومن عالم الرموز  إلى فضاء العلامات التجارية والأختام المميزة التي تهيم بدورها في تاريخ البشرية جمعاء وتدل على شيء محدد ومميز بعينه.

نشأت في مقابل حماية التعريف بالملكية الخاصة عبر الرموز صناعة كافة المسكوكات الذهبية والفضية وتطورت بعدها لتأخذ قيمة دولية عبر استخدام رمز القيراط الذي ما زال سائداً حتى اليوم الحالي وهو تعريفاً بذرة ثمرة الخروب ويُستخدم كوحدة لقياس الذهب والمعادن الثمينة، ومع التطور المتسارع في مناحي الحياة ودوران عجلة الاقتصاد وانفتاح ميادين الصناعة والإنتاج والنمو المُلفت فعلاً لحقول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فقد بات لكل فعالية اقتصادية أو معمل مميز أو أي شركة تجارية علامته التجارية الخاصة به والمسماة باللوغو أو الرمز وكثيراً ما يلجأ أغلب أصحاب الصناعات الحديثة إلى اختيار اللوغو من عبق التاريخ وفخر التراث الذي يراه المرء المُتابع مُستمداً من داخل روح تلك الصحوة العصرية لتوظيف رموز الماضي في رسم أشكال صناعة المستقبل وتطويرها إبداعياً ونوعياً وتجديدها باستمرار.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار