بهارات مشكلة.. وكلها مقادير وموازين!

الوحدة 8 – 10 – 2020

 

الروائح الفواحة تهلّ من أول الشارع لآخره بطبخ الجارات، وما إن أدخل باب البناية حتى أتعرف على طبخة اليوم عند كل جارة إلى أن أصل بيتنا ولم يخب ظني ورجائي في طنجرة أمي، فمن معالمها كما غيرها البهار، آه شوربة لا رز مفلفل أو مقلوبة والمحشي رائحته مميزة والدجاج أيضاً، جميعها إن خلت من البهار فلا طعم لها ولا فيها مزاج وقابلية على الطعام وأحب من بينها الفلفل الحار (هذا ما أشار إليه الشاب الصغير وسيم بالصف السابع وأضاف لا أصدق متى ينتهي دوام المدرسة وأصل شارعنا).

أما إذا قصدنا السوق وفي شارع هنانو والقوتلي تكثر محلات العطارين (السمان، عنتر، عبد الرحيم .. أولاده وأبناؤه، الشموط….) وتشدك عطورها ذات اليمين وذات اليسار ولو اعتلت أسعارها عروش مملكة سيدة البيت ومطبخها كما غيرها من الاستهلاكيات، إذ لا تستوي أي طبخة بغير رشة من البهارات وحسب النفس عليها، (ولكل امرأة نفسها على الأكل) كما يقولون.

لم نحصل على أي جواب لأسئلتنا لما طرقنا أبواب دكاكينهم وكلهم على جواب واحد نحن عاملون في المحل انتظري ليأتي سيد الرزق والمكان وعودي عند الظهيرة فقد يكون قد جاء، ولم يدعوني أصوّر الدكان، وأنا أعلم جيداً أن معظمهم كانوا أصحاب المحل فأنا أشتري منهم منذ سنوات، وعدت في منتصف النهار منهم من تملص من الجواب من أول سؤال ومنهم بامتعاض يردون (اذهبي للتجار عندهم الجواب) ولم أنل من أحدهم بعض الإجابة التي لا تبين الوضع والحال وكأن فيها أسراراً أو من ورائها مصاب.

وقفت طويلاً على أبواب هذا وذاك ورأيت أن كيساً صغيراً من بعضها لا يتجاوز كمشة اليد بالآلاف، فلمَ هذا السعر الكبير، هل هي مستوردة أم أنها محلية الإنتاج، وإن كان بعضها مستورد فكيف؟ وهل يحتاج إنتاجها لمهارة ويد عاملة بسعر مرتفع وخبرة، أليس بمقدور مزارعينا إنتاجها لأسواقنا وهل يناسب زرعها في أراضينا وتلائمها أجواؤنا..

جميع من سألنا من المزارعين لماذا لا يزرع النباتات العطرية وأصناف البهارات ردوا بقولهم: أنهم لم يفكروا بذلك وليس لديهم الخبرة كما أن ليس لها سوق ومبيع وأيضاً الأرض لا تناسبها هذه الزراعات، وصحيح أن أجدادهم وأهاليهم منذ زمن ولى كانوا يزرعون بعضها مثل السمسم والشمرا واليانسون وغيرها الكثير وبعض النباتات يجلبونها من الجبال  لكنها تحتاج لجهد كبير للحصول على تلك الحبوب الصغيرة وبكميات قليلة ولم تعد تجدي زراعتها وهم يحسنون زراعة الخضار والفاكهة ولها أسواقها ولديهم الخبرة في مثل هذه الزراعات، فلم التعب بشيء لا يعلمون عنه شيئاً والسوق تعمه هذه البضاعة وتتكدس به؟ وأحدهم علا بصوته وقال: زرعت بعض الأعشاب الطبية لما سمعت أن أسعارها كبيرة مثل الزعتر البري والذي يصنع منه زعتر المائدة وأنتجت الكثير لكني لم أجد سوقاً لتصريفها وكل من قصدته في السوق من العطارين رفض شراءها، فما كان مني غير أن أقلع الشتول لتيبسها زوجتي وتخزنها لسنوات لأجل صناعتها للزعتر وتلبية حاجة  البيت والأولاد وقد وزعنا نصفها للجيران (ضيعان التعب).

حتى إن وجدنا بعض أهالي القرى البعيدة عن المدينة ونادراً وجودهم وزرعهم لهذه الأنواع، فهم يحصلون على حاجتهم فقط وهم من المسنين الذين لديهم الوقت ويتحلون بالصبر والنفس الطويل لأجل إنتاج كيلو سمسم مثلاً أو طحين (درا بيضا) أو سماق أو فلفل أو …

أحد البائعين، يقول: ارتفعت أسعار البهار كثيراً كما غيرها من المواد، وهي تتساوى معها في الأسباب وأسواقنا تخيب، وبتنا نعتمد على ما تجود بها طبيعتنا في أغلب الأحيان، ولا نستطيع تخزينها فتقل جودتها ويخف طعمها خاصة المطحونة، وست البيت تحتاجها كل يوم لهذا يكثر الطلب عليها والحاجة وخاصة  في رمضان تكثر مبيعات التوابل والبهار لكثرة الأصناف والوجبات، كما تختلف الطلبات حسب المناسبات والأعياد حيث تتطلب الحلوى القرفة والمحلب واليانسون والشمرا وحبة البركة والسمسم وغيرها من الطيبات والمنكهات مثل ماء الزهر وزيت اللوز.. حسب ذوق السيدات، ولنا في الخلطات من التوابل الكثير من الوجبات مثل خلطة (الدجاج، المقلوبة، الكبسة، السباكيتي، الشاورما، الشيش، المندي ..) لنوفر للسيدات عناء المزج والطحن والجرش ونعطيها (الطعمة المظبوطة) بمقادير وموازين، وخاصة للسيدات الصغيرات اللواتي أقبلن على الزواج ولا يعرفن الطبخ والمنكهات، كما للتوابل منافع غير في الطبخ فهي توفر الصحة وتطيب النفس، فمنها المهدئ كما في اليانسون والكمون لجهاز الهضم والزنجبيل للبدانة وتخفيف الوزن والفلفل لحرق الشحوم وغيرها الكثير التي فيها العلاج لسقم الأجساد وكثير من الناس لا يعلمون ذلك، حيث للبهار العديد من الفوائد وكان الأقدمون والأجداد يجلبونها لغير أغراض الطبخ، كما الفلفل الحار الذي يدب في قلب الحبيب خفقان (يكفيك هذا الجواب ولا تعلقينا مع التجار والأسعار: كل شي تغير بهالدني لا الناس ناس ولا البهار بهار).

وغيره قال وهو قابع في محل بعيد عن السوق وكان قد أحل فيه بعض الاستهلاكيات مثل الزيت والمعلبات وغيرها (كما يقول ليمشي حالو)، أشار أنه في هذه المصلحة منذ سنة فقط، وقد أتى ببضاعته من السوق ولا يقبض إلا على جزء يسير من الربح، ومن تأتي إليه تسرد كل ما في بالها من حكايا وأوجاع عن السوق والغلاء وتكاليف طبخة اليوم وترش عليها البهار، ليختم بقوله: تخرج من عندي وهي تحمل كيساً صغيراً و تحدث نفسها (هذا بألف وألفين).. أفكر أن أبدل بضاعتي هذه بمواد استهلاكية وغذائية وغيرها أظنها أفضل وفيها الربح والعيش.

السيدة مهى لا يمكنها قصد المدينة وأسواقها دون زيارة محل البهارات في شارع هنانو حيث يبيع فيه شابان وهما أخوان وقد اعتادت أن تتردد على المحل لما تجده من حسن استقبال وابتسامة في الوجه وكأن للبهار مفعول السحر في النفس كما تقول وتسرد في حكايتها أنها كانت تشتري بالكيس مجموعة كبيرة وأصناف عديدة من البهارات بألف أو ألفين. أما اليوم فتشترى حاجتها فقط بمقدار (الكشتبان، الذي يوضع في عقدة السبابة)  تحتاج اليوم عشرات الآلاف إذا ما أقدمت على شراء الكميات نفسها التي كانت تشتريها في سنوات خلت، ولا تستطيع أن تتخلى عن البهارات في الطبخ لأجل المذاق وتطييب الأكلات كما أن فيها الصحة والعافية.

هدى سلوم 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار