بين.. الدهشة والحلم

الوحدة: 17-6-2020

 

كان خيالنا شاسعاً كقلوبنا التي لا حدود لنقائها وكنا نمتطيه بساطاً من الريح يطوف بنا ميادين الأرض وأرجاء الفضاء في لمح البصر كان العالم صندوقاً من العجب ينفتح أمام فضولنا ويكشف لنا أسراره يوماً بعد يوم، حتى إذا ما انكشفت فقدت بريقها وانبهارها، وفقدنا طفولتنا كنا فلاسفة نندهش لأبسط الأمور والأشياء.

 فنتساءل حولها ونبحث فيها ولا نجد ضرراً في أن نفسر الدنيا على طريقتنا وسجيتنا، كنا شعراء من حيث لا ندري وكانت قصائدنا بلا صوت نكتبها أحلاماً على صفحات دواخلنا الجديرة وصدقها بكثافة معانيها التي تعجز عنها عباراتنا.

 كنا سحرة نصنع من الحجر بيضاً ومن الدمى أناساً وأقارب ومن زوايا غرفنا بيوتاً ودكاكين وشوارع ومن الحديقة غابة ومن حوض ماء بحاراً ومحيطات مائجة تتسع لأشرعة خيالنا كنّا ممثلين نتقن أدوار الكبار ونتقمص ذواتهم وشخصياتهم ونقلد محاسنهم وعيوبهم ونستعير من الخرافات نصوصاً نلبسها واقعنا ونصدق إننا أبطالها كنا نرقص على عشب الحياة بينما يمشي عليها غيرنا وقدماه مثقلتان بطينها وحصاها.

 نعم لقد كنا أطفالاً.

 لم نتلوث بعد بصدأ الأيام ولا أورثنا الزمان حنكته العجوز ولا أثقلتنا الحياة بحكمها النابتة من وجع التجربة، فبقينا إلى حين خفافاً نحلق كالفراش بدون قيود نضحك ونبكي في آن.

 ويغلبنا النعاس فوق لعبنا من دون أن نشعر بالحرج ولم يكن أسهل علينا من أن نستحضر حديقة بقطعة طبشور أو أن نشكل غزالاً من الصلصال اللين المطيع ونصدق ما صنعته أيدينا.

 كنا أطفالاً و كبرنا فخف بريق الدهشة مع ارتفاع قاماتنا وخفتت أنوار الخيال في زحمة الأيام.

 ثقلت خفة الفراش لدينا وزادت حدة المخالب والأنياب حين نبت الشوك في طريقنا وأصبح لزاماً علينا أن ننحني لإزالته أو اقتلاعه.

 كنا أطفالاً وكبرنا.

 أما أولئك الذين لم يكبروا تماماً فقد احتفظوا رغم الشوك والطين بقدرتهم على التحليق والحلم وواصل خيالهم شطحاته وعقلهم اندهاشه فكانوا فلاسفة يبحثون عن الحكمة ولا يدعونها أو شعراء أو رسامين يطاردون الحقيقة ويصطادون الجمال لذلك لم يكن الفنانون في نظر علم النفس أكثر من أشخاص لم يكتمل نضجهم واستمر الطفل كبيراً في لا وعيهم أو ليس الفيلسوف هو من احتفظ بقدرته الطفولية على الاندهاش وجرأته الأولى على السؤال دون الخوف من أن ينعته أحد بالجهل؟

 أو ليس الشاعر طفلاً لم يفارقه الحلم فاستمر يحاصره عبثاً بسياج من الكلمات كما أن الرسام طفل لم تنس ذاكرة يديه نشرة الألوان والخطوط بين أنامله.

 وهل الموسيقي غير ذلك الذي احتفظت ذاكرة أذنه بموسيقى الوجود وهي تتشكل على سلم وعيه؟

كنا أطفالاً وكبرنا وما زلنا نحتفظ بطفل صغير بداخلنا يطل علينا من حين إلى حين أما من تضخم لديهم هذا الطفل ليطل في كل حين وحين منهم حقيقة الفلاسفة والفنانين.

لمي معروف

تصفح المزيد..
آخر الأخبار