الوحدة 11-12-2022
الفَقْرُ لا يعني الذّل، أو التّسول، أو التّخلف، وقد يملِكُ أحدُهم القصورَ والأموال ويبقى في نفسِهِ ذليلاً وضيعاً، يتسوّل السّرقات، عبداً للمال أينما وجدَهُ، وبأيّةِ طريقة. وقد يَفتقِرُ أحدُهم لأبسطِ مُقوّماتِ العيش، ويبقى في نفسِهِ عزيزاً عفيفاً، يرفُضُ المال -مهما كانت حاجتُهُ إليه- إذا كان بطريقةٍ لا تُناسِبُ عزّةَ نفسِهِ وكرامتها.. وما أبلغَ قولَ أبي نُواس في عزة النّفس:
وقد زادني تِيْهاً على النّاسِ أنّني
أرانيَ أغناهم وإنْ كُنتُ ذا فَقْرِ
فو اللهِ لا يُبدي لسانيَ حاجةً
إلى أحدٍ حتّى أُغَيَّبَ في قبْري
وعزّةُ النّفسِ لا علاقةَ لها بالغِنى أو بالفقر، بل هي صفةٌ فِطريّة أصيلة بالشخص، أو بالمجتمع، وقد نصفُ بها الأفراد وقد نصفُ بها الشعوب.
في أشد الظروف التي مرّتْ بها سوريتنا الحبيبة، كانت تستوقفني حوادثُ عديدةٌ تعبّرُ عن عزّةِ النّفس في أبهى صورها، ولا جديدَ على السّوري الحُرّ العتيق! وتعود بي الذاكرة إلى رجل أنيق يمشي بسرعة فيتوقّفُ فجأة حين يرى على جانب الطريق شخصاً بدا عليه الفقر والعوز، ولكنّه كان يقف بتعبٍ وتثاقُلٍ حاملاً ثلاثة أقلام عاديّة بقصد البيع! وواضح من هيئته أنّه يفعل ذلك لكيلا يطلُبَ المال بمهانة! نظر الأنيق إلى البائع المُحتاج، وفكر قليلاً ثم مدّ يده ليصافِحَهُ وقدّم له مبلغاً يزيد كثيراً جداً عن ثمن الأقلام المعروضة للبيع! فردّ عليه المحتاج لا عليك يا أخي تكفيني يدُك الممدودة لمصافحتي، وعدم تجاهلي، وقد أكرمتني، وصافحتني بطريقة النشامى وأهل الكرامة، ولكن لن آخذَ منك سوى ثمن الأقلام فحسب، وردّ إلى الرجل الأنيق -بحزم- بقيّة المال!! تمعّنْتُ كثيراً في موقف كليهما! موقف فطري أصيل، لا تشوبه استثناءات هنا وهناك، فهي -وإن كثرت- استثناءات مُكتسبة غير أصيلة، ولا تعبر عن العمق الحقيقي لهذا الشعب العظيم.. أيضاً ما أستذكرُهُ من المواقف، حين مَرَرْتُ بطريقٍ في إحدى الحارات الواسعة في المدينة، فرأيت فتىً صغيراً يمشي إلى جانب دراجتِهِ التي وضع عليها كيساً يملؤه بالأغراض وعُلب البلاستك، وما شابه مِمّا يلتقطه مِن الشوارع! أشفقْتُ عليه واقتربت منه وأنا أفتح حقيبتي لأعطيه مِمّا تيسّر منها، وما إنْ مَدَدْتُ يدي له حتى قاطعني صائحاً: لااا! لستُ مِمّن تظنّين! إنني أعمل! أعمل!.. أحرجتني كلماته! وكنتُ سأعتذر منه وأقول له إنّني لم أقصد إلا العَون! وكأنّه عرف ما سأقولُهُ فشكرَ مبادرتي وتابع عمله قائلاً: إنّني وكما تَرَيْنَ: معي دراجتي وفيها كيسٌ كبير أجمع به ما يتسنّى لي مِن بعضِ العُلب البلاستيكيّة وغيرِها مِن الأغراضِ لصالحِ مصانعِ إعادةِ التّدوير والتصنيع، ثم مِن جديد شكرني! فحيّيتُهُ وشجّعتُهُ قائلة: الله يقويك! مشيتُ حينها أفكّر ملياً في أزمتِنا التي بدأت بحربٍ ليست كالحروب، وها هي تستمرّ بحربٍ اقتصادية تفوق الوصف، ولكن كعادتهم ما زال السوريون يحافظون على مبادئهم وكرامتهم، على الرغم من شقائهم وأحوالهم، فأستذكر قولَ ميخائيل نعيمة: عزّة النفس في إهمالها!
حياكم الله وقواكم أصحاب عزّة النفس المجهولين على امتداد الوطن، وطن العزة! ومِن أغربِ المواقف، وأشدّها إيثاراً وانتباهاً، حين مَرَرْتُ بالقربِ مِن بائعٍ متجوّل يضع بضاعته البسيطة على رصيفٍ إحدى الحدائق العامّة، فأحببت أن أشتري منه، أدعمه، وأحصل على بعض الحاجات المنزليّة، ناولته ما تستحق من ثمن، لكنّه طلب ثمناً غيرَ مُقنعٍ! تركتها مستثقلة فتحَ حقيبتي مرة ثانية، قائلة: الله يرزقك، وهَمَمْتُ بالذهاب، فناداني تعالي وخذيها ببلاش! لم أصدق بداية لكنه قام وناولني إياها: خديها ما بدي حقها! ناولته ما كان بيدي، فلم يأخذه قائلاً: روحي الله معك عطيتك هيي بسماحة قلبي! ولا أجد تفسيراً لموقفه غير أنّه كان يعتذر عن الثمن المرتفع الذي طلبه في البداية!
وفي السياق نفسه موقف تلك السيدة الريفيّة بائسة المظهر والتي حدثني عنها أحد الزملاء عندما التقاها في إحدى المحال التجاريّة وقد ابتاعت حاجياتها بسعر غير مقنع ولم يكن بحوزتها فحاولت التفاوض مع البائع لتخفيضه لكنه عبثاً، فحاول والقول للزميل أن يساعدها ويدفع عنها بقية المبلغ لكنها شكرت مبادرته مع الرفض قائلة: لم أخلق لأستعطف الناس كرامتي لا تسمح لي مهما عصفت بي الظروف.. فيقول الزميل متعجباً ومعجباً من ردة فعلها وتعففها: يا لك من سيدة تفوق الوصف، لنا ولك الله.
أيتها السيدة الرائعة الأبيّة النفس، عشْتِ أنتِ وأمثالُكِ مُشبعةَ الأخلاقِ الرفيعة، والكرامة العفيفة، في بلد خلاقة بكل ما هو أصيل، على الرَّغم مِن الظروف والمتاعب.. عاشت سورية عزيزة النّفس، مُكرّمةً برجالها ونسائها.
د. سحر أحمد علي