الوحدة : 16-11-2021
صباح البارحة سمعت صفيراً يعتقد المرء للوهلة الأولى أنه صفيرٌ عاديٌ ناتجً عن انفلات الهواء بين شفتين مزمومتين، لكنه كان صفيراً آخرَ.. كان صفيراً مختلفاً.
بينما كنت أتسوق حاجتي من دكان الخضروات في الحي، ولج رجل ستيني نحيل الجسد أبيض الشعر أتقن الدهر صنعة حفر الأخاديد في وجهه التَّعِب، تَجْهَرُ أسنانه الصفراء بعشقها الأبدي لمرارة التبغ وعدائها المطلق للفرشاة ومن لف لفيفها من المعاجين ويؤكد منبت الشعر الأبيض في ذقنه مبدأ الصمود والتصدي للحلاقة اليومية وأدواتها الشريرة.
أشار بإصبعه إلى الفاصولياء الخضراء سائلاً البائع عن ثمنها، أجابه البائع المنهمك في ترتيب حبات الكاكي دون أن ينظر إليه: الكيلو بأربعة آلاف ليرة.
زمّ الرجل شفتيه وحرّك رأسه ذات الشمال واليمين مطلقاً صفيرين متتابعين الأول ضعيفٌ طويلٌ استهجاني أتبَعَه بصفير ثانٍ قصيرٌ شديدٌ تأكيدي وتسمر لثوانٍ في مكانه بينما بقيت يمناه ممدودة تشير إلى الفاصولياء فبدا الرجل وكأنه تمثال قُدَّ من حجر يمثل مشهد قائد فاتح يشير إلى ميدان المعركة، طبعاً مع فارق الحالة والمظهر والسربال! حرّك يده مشيراً إلى البندورة وأعاد السؤال فأتاه جواب البائع المنهمك: الكيلو بـ… ليرة، زم الرجل شفتيه ثانية وانفتحت أخاديد وجهه حتى بدا القاع منها وكرر صفيريه المتتابعين ليبدو هذه المرة وكأنه قائد فرقة (كورال) يعلم أفرادها قرار الصوت وجوابه! سأل عن أربعة أنواع أخرى من الخضروات ومع كل جواب من المنهمك كان البلبل يكرر صفيره، وفجأة توقف عن السؤال والصفير واتجه إلى صندوق الفاصولياء، تناول كيساً ووضع فيه حفنتين مِلأَ يده ثم نظر إلى البائع مكرراً سؤاله: بكم قلت كيلو الفاصولياء؟ توقف البائع عن انهماكه وحدجه بنظرةٍ ملؤها الملل: قلنا بأربعة آلاف، لم أتفاجأ عندما كرر الرجل صفيره، نظر إلى كيسه وحك ذقنه ثم فرد أصابع يده وأخذ يقوم بعملية حسابية ذهنية مستعيناً بأصابعه متمتماً كأنه مشعوذ يتلو طلاسمه الطاردة للجان والعفاريت، أنهى حسابه وطلاسمه ثم مد يده إلى كيس الفاصولياء، قبض على حفنة منها فأخرجها وأعادها إلى حضن أمها الصندوق وتناول كيساً آخر وضع فيه ثلاث حبات من البندورة: بكم قلت كيلو البندورة؟ – ب…ليرة، كالعادة ذات الصفير ونفس النغم! ناول البائع كيس الطماطم قائلاً: زنها لي من فضلك، وَزَنَها البائع قائلاً: ثلاث أوقيات، فَرَدَ الرجل أصابع يده الخمسة وعاد إلى عفاريت حساباته ومعادلاته ذات المجهول الواحد المال طبعاً! أنهى الحساب وحلَّ المعادلة مخرجاً مجهولها من الكيس، أعاد حبة من البندورة إلى صندوقها مكتفياً بحبتين وحفنة فاصولياء لا يعلم إلا الله وهوَ عدد المجاهيل الذين ينتظرون قدومها إلى مطبخ المنزل.
خرجت من الدكان ولازال صفير الرجل يملأ مسامعي، هذا الصفير مختلف لا يشبه أي صفيرٍ آخر، لا يشبه صفير البلبل، لا يشبه صفير مشجعٍ في الملاعب، لا يشبه صفير مشاركٍ في تدشين حجر أساس، لا يشبه صفير مراهقٍ تمر من أمامه صبية جميلة، لا يشبه صفير القطار، لا يشبه صفير الرياح، لا يشبه صفير طنجرة الضغط، لا يشبه صفير قذائف الهاون وصواريخ المسيَّرات، هذا الصفير لا يشبه صفيراً آخرَ لأنه كانَ…. صفير الروح.
شروق ضاهر