وقال البحر…. المُخاطرة

الوحدة: 21-9-2021

بات سلوك المُخاطرة في مثل هذه الأيام، وضمن عموم الظروف الراهنة، والأوضاع المأساوية من أبرز وأكثر الموضوعات التي تحتاج إلى جهد مكثف في مجال الدراسات المجتمعية الحديثة، بُغية الاقتراب من قلب عواصف المشاكل الاجتماعية، والمُنغصات اليومية، وصميم تقلبات شتى أنواع صور وأطياف السلوك الإنساني لتقديم إجابات ومقترحات شبه عملية عن جملة تساؤلات تتعلق بنسب المُخاطرة في اتخاذ أي قرار كون موضوع المُخاطرة في حسم واتخاذ القرارات أمراً سيكولوجياً يُثير الاهتمام فعلاً، لأن مشوار الحياة من أولها لآخرها هو سلسلة من القرارات الواجب اتخاذها في كل لحظة من لحظات المشوار على هذه البسيطة، وفق نسب مختلفة ومتفاوتة من مقادير المُخاطرة، ومن المُمكن القول بأن حرية اتخاذ القرار مرتبطة إلى حد كبير بمدى ما هو متوافر لدى صانع هذا القرار من قدرة فعلية، كما أن اتخاذ القرار هو أحد الأبعاد الواجب مناقشتها ومعالجتها بعمق لدى عموم المثقفين والمبدعين خصوصاً أن كل واحد من هؤلاء يعمل في مادته الإبداعية (تحريراً أو تشكيلاً أو تمثيلاً أو شعراً .. ) بدون فرض أو إملاء أو تقليد وذلك حتى لا يكون عمله خالياً من التميز والبراعة والإبداع.
تُعد معضلة المخاطرة بحد ذاتها من أصعب مُعضلات اتخاذ القرار وممارسة الحرية بذلك، ولهذا السبب فيتوجب التوقف عند التحديد الإجرائي للسياق الحالي لهذا المفهوم، وعموماً تُشير غالبية قواميس المُصطلحات في العلوم السلوكية إلى أن سبب السلوك يرتد أساساً إلى الإرادة الحرة و القرارات المستقلة والشخصية الخاصة بالفرد نفسه مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار لعدة أمور من زوايا مختلفة تتجلى فيما يلي:
– طبيعة الشخص الذي يُمارس حريته ويُخاطر باتخاذ قراره.
– العوامل الخارجية المحيطة بالمرء والتي تُؤثر في اتخاذه لأي قرار مُغامر.
– ماهية الموضوع الذي يستحق فعلاً المخاطرة باتخاذ القرار من أجله.
وفي إضاءة سريعة للعوامل الخارجية المؤثرة على قرارات الإنسان يُلاحظ أنها تتجلى في القانون والمعايير والأعراف الاجتماعية السائدة في أوساط المجتمع وكذلك في الخوف من عواقب وتبعات لا طاقة لتحمل وزرها بأي شكل من الأشكال وهذا كله يجعل من الواجب على أي إنسان أن يُحقق ويدقق في تفاصيل كل النتائج التي يُمكن أن تُسفر عنها مخاطرة اتخاذ أي قرار من القرارات المصيرية، كما أن هناك عوامل الظروف الطبيعية والتي تُعد من أهون العوامل الخارجية التي تعوق حركة الفرد وحريته وصفاء تفكيره ويمكن له بقليل من الحيطة والحكمة تجاوزها والتغلب عليها ليتسنى له حرية تحقيق الأهداف وفق الأبعاد الشخصية والمعرفية والجمالية بنسب قليلة ومتدنية إلى حد ما من أهوال المخاطر.
من المُلاحظ أن تنظيم مُخاطرة النشاط الإنساني وفق إرادة الشخص لا يمضي على وتيرة واحدة عند كل الناس بل ربما من المُمكن تصوير الأمر في صورة لها طرفان متصلان فيقف قلة من الناس عند طرفها الأول (مُنتهى التحكم الإرادي في الفعل) وتقف القلة الباقية عند الطرف الآخر (منتهى الانسياق دون إرادة أو وعي) وما أفعالهم إلا مجرد مُخاطرة في ردود أفعال يصدرونها استجابة للواقع الخارجي، وما بين هذين الطرفين وعلى امتداد متصل يجثم الآخرون حيث تتمركز الغالبية العظمى في المنتصف بمركز التحكم في القرارات وممارسة الأفعال مع ملاحظة انسياق العديد وراء ما تأتي به مخاطر الأحداث، ولا يخفى للعيان بأن الفعل نفسه في شكله ومادته ومغامرته ومضمونه يلعب دوراً في صياغة النشاط المُتصل بالقرار أيضاً، ووفقاً لبعض الأبحاث فإن المرء المُلزم بممارسة أي عمل يتطلب مبادرات مستمرة ومخاطرة اتخاذ الخطوة الأولى سيكون مُحتاجاً دوماً إلى من يحفزه للعمل وفق نظام له مراحل معينة وأوقات محددة ليلتزم بها التزاماً صارماً دون أن يكون أسيراً لسياق الظروف ومُستسلماً لما تأتي به حادثات الأيام، وبالإشارة تحديداً إلى الظروف أو الخصائص أو المقتضيات أو السياقات لخطورة الأفعال التي تُمارس تأثيرها في الحد من هامش حرية الإنسان فإنه بقدر قليل من الجهد والرغبة والاندفاع يمكن السيطرة على خطورة كل هذه المتغيرات وتوظيفها لخدمة القرار المرغوب اتخاذه دون ترتب أي مسؤولية تُسببها المُخاطرة باتخاذه دون سواه وعليه يتوجب القول بأن المرء الذي يستبصر حدود صلابة الواقع لا بد أن يكون واعياً بحدود ما زُود به من إمكانات حتى لا يندفع وراء مخاطر جموح دوافعه فيصطدم بصخر الواقع المُتحجر فيفقد نفسه وينسلخ بألم عن صميم واقعه الذي لا يمكنه إلا التفاعل معه والانصهار به بدون انقطاع أو عزلة لاستثمار معرفته واستكشاف خوافيه.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار