وقال البحر … القلم واللسان

الوحدة 24-2-2021

 

لولا الكتب المُدونة لاندثر أكثر العلم ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ولو تم ذلك لحُرم الناس أكثر النفع، وفي رحلة الغوص بحثاً في أعماق التراث لرصد التطور الذي أصاب الوعي مع تحوله من الشفاهية إلى النزعة الكتابية كان وضع الدفاع عن حالة الطبع في التراث يمكن فهمه بأكثر من معنى فقد اكتسبت صورة الكتاب والقلم دلالة مميزة ومتجددة في سياقات الوعي الذي استشرق آفاق المعمورة الإنسانية و تجلى كلاهما أداة وشعاراً للمعرفة التي تتواصل بها الأمم في حلم تتميم النوع الإنساني الذي تحدث عنه بعض الفلاسفة إضافة إلى دفاع بعض أصحاب الفكر عن الكتابة والكتاب كوسيلة مُثلى يتعرف بها فعلياً الإنسان على أخيه الإنسان في كل زمان ومكان ويتواصل بها الأدنى والأقصى في كل الأرجاء وينقل بها الخلف عن السلف من كل حدب وصوب وخصوصاً بعد أن أصبحت الحكمة ضالة المؤمن يسعى وراءها أينما وجدها.

إذا كان الكتاب وعاءً مليئاً علماً فإنه صار وعاء العقل الإنساني الذي ينقل المعرفة من أمة إلى أمة ومن لسان إلى لسان فهو الذي يجمع للجميع كل من الأول والآخر والناقص والوافر والخفي والظاهر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والشكل وخلافه، وفي هذا السياق يتم تأكيد الانحياز إلى الثقافة الكتابية التي تغدو بحضور الكتاب شعاراً لفكر إنساني يتجاوز الحدود وعلامة على جهد مشترك تستوي فيه رغبة الأمم وتتشابه فيه شتى الأعراق والأجناس وكل هذا يعني بأن دلالة الكتاب تشير إلى جمعه بين معرفة السماع وعلم التجربة وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة وبين علوم القدماء وفلسفة الحكماء وبين شغف قراءة الفتيان وتأني مطالعة الشيوخ، ولعل الوعي الجاد بدوره هو وعي بالزمن ومقاومته فالمرء الذي ينسى الكلمة ويسهر الليالي الحالكة في طلبها ويضع في موضعها كلمات في وزنها ومعاني جمة في تفسيرها يجد أن الكتاب لا ينسى شيئاً من هذا القبيل ولا يُبدل كلاماً بكلام مع الأخذ بعين الاعتبار اعتماد القلم علامة على المعنى الكتابي التي غدا بدوره بديلاً عن المعنى الشفاهي المرتبط بدلالة اللسان.

القلم أداة الكتاب و وسيلة الكتابة وله مكان رفيع ومميز لما له من دلالة مباركة مرتبطة بحضوره في كل الأوساط وعموم الأماكن، وفي مقارنة مبدئية بين القلم رمز الموهبة الكتابية وبين معنى اللسان مقياس الطاقة الشفاهية يجد المرء بأن اللسان لا يجري مجرى القلم ولا يشق غباره أو يتكلف بعد غايته فأثر اللسان ضائع وحضوره مؤقت ومداه موصول بمدى الصوت الذي سرعان ما ينقطع ويتلاشى وأما القلم فهو علامة الحضور المتصل والزمان الممتد للكتابة وذلك لأن حضور القلم حضور يرتبط بما هو معلوم من أن حاجات الناس في سائر الأماكن وشتى الأوقات هي حاجات يغدو معها القلم شريان حياة ولازمة من لوازم المعرفة في أمور الغيبة النائية وأحوال الحاضر المعقدة ولولا ذلك ما اختصت الدواوين بالقلم الذي هو أبسط ما عندها وأعم أثراً في حواضرها، مع عدم الإغفال عن أن حضور القلم على صفحات الكتابة يخلق حضوراً مغايراً يقي من قلة الحظ مع الحكمة وضعف السبيل إلى المعرفة ويبقى على مدى الدهر حافظاً بحق ما لا تحفظه بنيان الحجارة وجدران المدن مع مرور كل الأزمان، وتجدر الإشارة إلى أن الشعر من وجهة نظر من يُدافع عنه يُعتبر حديث الميلاد قياساً مع معارف الأمم ومكنونات حكمتها التي أودعتها في كتبها ككتب أرسطاطاليس وأفلاطون ومن ثم بطليموس وغيرهم الكثير قبل بدء الشعر بالدهور قبل العصور وبالأحقاب قبل الأنساب. 

القلم حضور وتحويل للمشافهة إلى كتابة تبقى وتنتزع الحضور من عدم النسيان ومن الواضح أن الدلالة الرمزية للقلم هي التي شجعت الغالبية على توجيه الانتقال بمستوى العقل الفكري والإبداعي من حال البداوة إلى حال قيم الحضارة ومن حالة الاستجابة العفوية للطبيعة والمحيط إلى حال البناء الراسخ والشامخ للثقافة مع إبراز الدلالات حول تعليم الإنسان ما لم يعلم بواسطة القلم من نواحي حفظ الألسن والآثار وإثبات الحقوق وتوكيد العهود وحفظ الإنسان من آفة النسيان وسياقة التواريخ وتثبيت الشهادات، ولا غرابة في وصف سياق العلاقة بين القلم واللسان بالمتوترة حيث تنطوي على تعارض نمطين من الحضارة والتفكير ونموذجين متقابلين من رؤية العالم والكون وفي إطار ذلك يجب فهم التضاد الذي أُقيم بين الشعر الذي غدا مرتبطاً باللسان وبين العلوم التي غدت مرتبطة بالكتاب وعلى رأسها فنون الكتابة، وفي صورة أخرى فالتقابل بين المشافهة والكتابة والمفاضلة بين مفهومي القلم واللسان التي هي مفاضلة المكتوب المنثور والمنظوم المحفوظ تتجلى بين المعرفة المقصورة على أهلها والحضارة الإنسانية التي يتبادل فيها عموم البشر الأخذ والعطاء.

د. بشار عيسى

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار