العـــدد 9304
الإثنـــــــين 4 آذار 2019
هبت الريح وانطفأ قنديل المساء، تشظت العتمة وغطت تفاصيل الحكاية، غفت جدتي في المنتصف، وألقت عليّ سردها الجميل، ورحت أنا أهدهد لهفتي لمعرفة النهاية، كانت الحسناء قد رمت للحبيب ضفيرتها، ووقفت تنتظر فرح اللقاء، أطالت جدتي إغفاءتها، وما زلت أنتظر صحوها، وعودة الضياء.
هكذا كانت تنتظر هدى وسوف حكايا جدتها تحت ضوء القمر والنجوم في تماس مباشر مع السماء على سطح الدار، بصوتها الدافئ وتدفق أنفاسها العذبة قرأت علينا نثرها، ورتلت قصائدها التي ولدت برفقة جدتها وحكاياها وبين أحضان الطبيعة وضيعتها وأسرتها التي يسكن مكتبتها كبار الأدباء والمفكرين لتكمل مشوار حياتها بزوج مهّد لها الطريق فكان الأدب والنجاح.
الروائية هدى وسوف كانت ضيفة نادي القراءة في المحطة المكتبية بقرية قسمين، وقدمتها الآنسة هيام علي مديرة المحطة للجمهور الجميل والذي كان معظمه من نساء القرية وشاباتها، وهو ما جعل الكلام مباحاً بحضرة النجوم بأجمل وأرق التعابير من روائية شغوفة بالحب والإنسانية والحياة: (أعرف أن الوقت ليس للحب.. وأن الزمن الذي نعيشه ليس زمناً للفرح . . وأن فرحي يخجل وينكمش أمام دموع الأمهات وأحزانهن، أمام قوافل الشهداء التي بلغت الآلاف لكن هذا الحب ولد، وجد، رغم الخراب الذي يملأ المدن ورغم الموت الذي يجتاح البلاد)
هذه العبارات اعتمرت بها روايتها (تفاصيل الغياب) التي نشرت في 15/10/2014 وكان ريعها للجرحى، والتي تحكي بل توثق بعض التفاصيل التي أتت بها هذه الحرب البغيضة على حياتنا خراباً وألماً وأوجاعاً، لكن بصيص الحب يضيء طرقات وعرة لتكتمل الأحداث ويظهر الحب الأسمى للوطن الذي سكنها كما كل أهلها ليكون هجر الحبيب ورحيله إلى البعيد.
في ردها على رسالته الأخيرة قالت له: (لست على يقين من رغبتك في معرفة أخباري، وأخبار البلاد، وأعتقد أنك تفعل كالمعتاد، تبتعد عما يوترك ويتعب قلبك، لا سيما وقد بدأت بداية جديدة، في أمكنة جديدة، ولعلك ترغب في محو ماضيك وذاكرتك القديمة الحزينة لتفسح مكاناً لصور أكثر فرحاً وسعادة، لكن لعل فضولاً يدفع بك لتعرف كيف نحن في غيابك؟ أنبئك ولم يعد مهماً علمت أم لم تعلم، أنبئك بأننا نمضي في طريق الشفاء وبمهارة ننجح في رتق الجراح، وبأنني ما زلت صديقة وفية للبحر، وما زالت غيوم السماء البيضاء رفيقتي كما السحب الداكنة، لا زالت نفسي النقية مخلصة لكل اللحظات الصادقة التي عشتها مع أي من الكائنات، وما زلت أملك القدرة على ترميم ما يصيب الروح من الخيبات)
لم يخب ظنهن بالروائية هدى وكلما صمتت وتوقفت عن الكلام علا صوتهن هل من مزيد؟ وكان لديها المزيد حيث أفاضت وأباحت بكل العوامل التي أثرت فيها وجعلتها أديبة، كما قدمت بعض التفاصيل لأعمالها الأدبية كافة (طرقات وعرة، ندوب في الذاكرة، جرح صغير، صباحات لها طعم الدفلى، أنين المدى) وبعض شخصياتها التي تبدأ عند التفكير باسم البطلة ومحور القصة، فكل نسائها كبرياء ومتألقات بهيات (ارحل أنت، أما أنا فسأبقى. سأبقى هنا ولي كل هذا المدى، لي البحر ورمله والشاطئ، لي الأرض وترابها والحجارة، لي الهواء الذي أعشق)
هدى سلوم