وقال البحر.. فراشة مجنونة

الوحدة: 21- 9- 2020

 

بدأ الرجل يلفظ أنفاسه، فعاهدته امرأته الحسناء على الوفاء، ونذرت على نفسها أن تزوره كل يوم، وتشعل مجمرة تنثر فوقها بخوراً تفوح رائحته العطرة، وعدته أن تحتفظ بذكراه.

وبعد الدفن اشترت كومة من بخور، وزارت قبره في اليوم الأول وهي مستكينة لقدرها، الافتراق شيء صعب ومرّ، بللت أمطار الحزن وجهها وعصف بها الألم، فأنساها أن تشعل البخور وبدت جامدة كتمثال يغمره نور الشمس الباهر.

وفي اليوم الثاني وضعت قليلاً من البخور في المجمرة، وأحرقته تحت سماء فسيحة زرقاء.

وفي اليوم الثالث أتت الأرملة الحسناء وهي تلتف بعاصفة من عبير، وأشعلت كيساً من البخور لتفي بوعدها وأخذت تتأمل السحائب وهي تتلوّى.

تخلصت من كومة البخور، لن تصبح عيناها غائرتين من البكاء، ولن يصبح جسدها جافاً كالهشيم، ماذا تنتظر؟ أليس من حقها أن تبتعد عن ذلك المكان الذي يفتح فمه لابتلاع البشر كل لحظة؟ نظرة من الحسناء تجعل الراحل يقوم من بين الأموات، لو كان يعشقها حقاً لتسلّلت ذراعاه من تحت الأرض لاحتضانها.

لن يمدّ الراحل يديه نحوك أيتها الأنثى الحزينة التي أشعلت البخور، تنظرين إلى أشجار المقبرة ترفعين رأسك تتأملين السماء الصافية هل تعيشين في الوهم أو الحقيقة؟

هنا في هذا الموضع الصامت الموحش لا حزن ولا كراهية، لا هزيمة ولا انتصار، تأملت المرأة قبر الراحل:

( أما يكفيك كل هذا البخور؟)

انتابها إحساس أن الذكرى لا تملأ عروقها بالارتواء، وأنها امرأة بلهاء، لماذا تستسلم للحزن والصقيع وتسلك طريق الموت وتغوص في الظلمات؟ لماذا لا تترك ثيابها السوداء فوق الحجارة؟ وتستحم بأشعة الشمس؟ لتحبها الطيور والأشجار، إنها تعاني الفقد فهل تعتزل وتنسحب من الحياة؟

 عزيز نصّار

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار