مع قهوة الصباح

الوحدة 9-11-2024

سألتني صديقة آلمها تساقط المطر على نوافذ القلب المشرعة للحزن: لماذا نحب، ومن نحب؟
وهل يختلف الحب عند المبدعين عن حب الناس العاديين؟
تركت فنجان قهوتي على مضض…فقد كان الشيء الوحيد الذي يبث الدفء في صباحنا المطري البارد، في ظل انعدام وسائل التدفئة، وتأخر وصول الرسائل التي تعد بقرب الموعد، قلت لرفيقة صباحي الشتوي:
يمثل الحب بالنسبة للمرء مفتاح الوعي، يحقق من خلاله ذاته الظامئة لحلم بعيد المنال، يبحث فيه عن الطمأنينة ليتحرر من شعوره بالقلق، لذا يخلق كل منا أنموذجاً في الحب، أو ربما يجعل من محبوبه أنموذجاً وإن لم يكن هو كذلك بالفعل… يصير تعويذته التي تحميه من ظلمات عوالم المجهول.
نحن بحاجة لوجود هذا الهوى على اختلاف درجات وعينا وثقافاتنا واهتماماتنا، نستلهم منه الإبداع والإنجاز، نعري أرواحنا أمامه، نظهر ضعفنا الإنساني، والويل ..الويل كله للعاشق، إن لم يكن معشوقه أهلاً لكل ذلك، فهو ينتظر منه أن يحتوي هذا الضعف، ويسمو بالوجع نحو الضياء، لأنه لايرى وجوده إلا في هذه العلاقة، يسعى إليها حتى لو كان يدرك أنه لن يصل، بل ربما يكون ذلك الشعور ضرورة لإبداعه واستمراره، فالحلم عندما يتحقق يعني تحقق الذات، أي الوصول، أو الانطفاء..
والإنسان بحاجة دائماً لوجود مستحيل في حياته يسعى إليه، لأنه يجد الجوهر الحقيقي في غموض المستقبل، وأما الماضي فهو ذكرى لا أمل في عودتها، وأما الحاضر فمجرد جسر عبور لما هو أجمل كما نرجو ونمني النفس أنه سيكون، وهكذا لن يتوقف واحدنا عن السعي لتحقيق ما يريد أن يكونه في الحب، لذا نعاني من التشتت بين ما نحن عليه وما نريد أن نكونه.
المبدع يقع في الغرام دائماً، قد يكون لديه حبّ أول في حياته، لكنه لن يصل يوماً إلى حبه الأخير، سيظل يغرم كل صباح، إن لم يكن في الواقع فسيخلق هذه الحالة على أوراقه وفي ألوانه وألحانه… باختصار في الحالة الإبداعية التي يعيشها، وسيكون لديه غرام مستحيل، يحفزه ويكون مصدر إلهامه ووجعه وسكينته يلوذ به في لحظات الضياع….وسيتحكم هذا الغرام في طمأنينة المبدع يدخله إلى جنتها من أوسع الأبواب، ويطرده منها ساعة يشاء، في حالة ازدواجية أو انفصامية… لن يتمكن حقاً من تفسيرها، لكنه سيخرج إلينا بإبداعه الجميل.
تخيلي لو أن الشاعر أحمد رامي نال الوصال من أم كلثوم، كيف كنا سنعيش مراهقتنا من دون (يامسهرني، وجددت حبك ليه، وحيرت قلبي معاك)، و أن فيروز بقيت مع عاصي ولم ينفصلا، كيف كنا سنعيش معها إحساس (سألوني الناس عنك يا حبيبي….وبيعز علي غني ياحبيبي لأول مرة ما بنكون سوا)، وهل كنا قرأنا أجمل مما كتبه نزار قباني لبلقيس بعد وفاتها …..و…
استوقفتني صديقتي قائلة: صحيح لم لا يكون الإبداع جميلاً إلا إن انتهى بألم أو موت أوانفصال؟!
أسرعت للاستدراك: الإبداع إبداع… والجمال يفرض نفسه في الحزن والفرح، ولكنا بطبيعتنا البشرية نتأثر بالأحداث العاطفية المؤلمة أكثر ونتعاطف مع شخصياتها، ربما لأن الوجع هو السائد في العالم.
كانت القهوة قد بردت، لكنا أشعلنا مدفأة الزمن بصوت فيروز الذي بدأ يصدح معلناً بداية يوم جديد وغرام جديد: (بشتاقلك لابقدر شوفك ولابقدر أحكيك..بندهلك خلف الطرقات وخلف الشبابيك…) فقلتُ:
وهل ثمة عذاب أكبر من هذا يافيروز؟!
أتنفسه ولست بلقائه أفوز ..
تبعدنا مسافات فنعود للذكرى نلوذ..
نستظل بفيئها..ونهرب من لظى الحنين..فنشرع أبواب الهوى لنبض.. لايستكين..اعذريني..
في حبه لست أنت..
أنا لم أجرب أن أنسى..
ولم يرجع لي ماكان …
فقط هو لم يبرحني..
لم يضع مني..
إنه يسير تحت جلدي.. مع أوردتي..
أنا أحببته..ونسيت النوم ..
عشت في يقظة أحلامي..
وسيظل حبيبي وإن لم نكبر معاً…
وقصتنا الغريبة ولدت لتكون هكذا..
أنا احبها كما هي..
لن أغير تفاصيلها..
سأحبه في الصيف
سأحبه في الشتاء…
وسيظل الخريف فصلي المفضل ..
وفي الربيع سيرى البحر …
سيذكر أن حبي أكبر من البحر..
وأعلم أنه أبعد من السماء..
نعم أيتها العصفورة البيضاء.. لاتسألي ..أو اسألي وأخبري…
ياليتني منك …مددت يدي وسرقته.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار