وقال البحر.. الكاتب والفقر

الوحدة: 7- 9- 2020

 

أخاف أن يحس بالمهانة والحرج إذا اقتربت أكثر، أتمهل في سيري.

ماذا يورثه الفقر؟ ماذا تورثه الكلمة؟ عربة تصدر أنيناً والعجوز يتأوّه. يترنّح في مشيته المضطربة. يصبح صرير عربته ضعيفاً واهياً. كنتُ أتخيله في الزمن القديم طائراً يرفرف عبر فضاءٍ شاسع ويجوب العالم كله، وها هو مثقل بالسنين، وتكاد الرياح تأخذ أغانيه وأنفاسه يلهث من الإعياء يرزح تحت أعبائه القاسية، ربما كان يخطو خطواته الأخيرة.

مخلوق عجيب مشدود إلى عربة مثقلة، ظهره ينحني كرجل الأسطورة وهو يحمل صخرته إلى أعلى الجبل، فتتدحرج إلى الأسفل، يعاود حملها إلى القمة لتسقط مرة أخرى.

هل حياته عبث؟ هل احتراقه عبث؟! أيّ خطيئة ارتكبها حين أراد أن يكون كاتباً؟ من يغفر له هذه الخطيئة؟ متى تغمر الطمأنينة روحه التائهة؟ يتأوّه. يخشى أن تضعف يداه ويعجز عن السير، وتنهار عزيمته. متى يشفى من القهر والمرارة؟ متى يفوز بالراحة؟

تتوارى عربته في المنعطف. أسرع لألحق به يبدو عارياً كعصفورٍ منتوفٍ الريش. أنفاسه فحيح متوجّع يتهاوى جسده الهزيل ويرتطم بالأرض. يتناثر الأثاث ويسكت صرير العجلات، أعجز عن السيطرة على نفسي أهرول نحوه، أرفعه عن الأرض ينظر عابرون إليه بشفقة، يمتلئ الزقاق بالأولاد يحيطون به مدهوشين صاخبين هل يرفع رأسه بكبرياء أم يخفضه في مذّله؟

يجمع الأثاث المتساقط يلتفت نحوي صامتاً. يعلو هدير الريح، والناس يهرولون ليختبئوا في بيوتهم، ما بك أيها العجوز؟ لن تكون وحيداً هذه المرة. أمسك أنا ذراع العربة اليمنى. وتمسك أنت الأخرى، نتجه إلى الأمام لحظات كزمن شاسع. والهواء مثقل بروائح قاتلة، نمرّ بحارات قديمة ضيقة تزدحم بالأطفال والجرذان والنفايات. والأطعمة المتعفّنة والقذارة. هذه العربة مثقلة بالأغراض البالية، نفسي مثقلة بالأحزان. كلما أوشك صاحبي العجوز أن يصل إلى شاطئ الأمان تحدق به الأخطار والعواصف. آلامه لا تطاق. إني أفهم معنى الشقاء الإنساني.

أيها العجوز لم تكن حياتك عبثاً وبلا معنى، منذ نصف قرن أعرفك.

بنيتَ أسرة كبيرة والهموم تجثم على صدرك، وأنت تتحامل على نفسك، وتتنقل بين أحياء شقيّة. تسكن أقبية .

عزيز نصّار

تصفح المزيد..
آخر الأخبار