وقـال البحــــــر… بصمة أوغاريت

العـــــدد 9394

24 تموز 2019

 

تُوصف أحداث الحياة ومحطاتها بأجمل العبارات وأبهى الكلمات وأرق الحروف لاستيعاب انفعالاتنا واستخراج مكنوناتنا، و لولا عكاز الأبجدية لتمزقت الروح منذ زمن بعيد ولانكسرت الكلمات منذ عصر سحيق، وتُعرف الحروف الأبجدية بأنها نور التفاؤل الذي يضيء أشكال النصوص المستخدمة في سائر لغات هذه الحياة وحضاراتها المتعاقبة.
لم يكن اكتشاف هذه المدينة القديمة معروفاً قبل العام ١٩٢٩ م إلا من خلال بعض الرسائل التي وجدت وبعض الكتابات التي عثر عليها في ماري، وهذه الكتابات جميعها لم تشر إلى موقع المدينة وإنما اكتفت بذكر خبرها فقط، وشاء القدر أن تكون قصة ذلك الفلاح الذي سار الخطوة الأولى نحو اكتشاف مدينة من أعرق مدن العالم القديم حضارة وتاريخاً وأجلّها عظمة وهي مدينة أوغاريت والمعروفة برأس شمرة.
انطلاقاً من مقولة أن ابتكار الأبجدية هو أدهش ابتكار إنساني مؤثر، فقد أدت الاكتشافات العظيمة التي أزاحت آثار رأس شمرة الستار عنها إلى حقائق مهمة ومدهشة وتتمحور في أن سكان أوغاريت هم أول من اخترع الأبجدية، إضافة إلى أن الحضارة الحديثة التي استمدت جذورها وعراقتها من تفكير أهل اليونان وفلسفتهم وأدبهم تعود في واقعها وحقيقتها وجذورها إلى سكان أوغاريت الزاخرة
بالكتابات العائدة للعديد من اللغات القديمة ومن هذه الكتابات ما هو مكتوب بالمسمارية السومرية والهيروغليفية المصرية وبلغة قبرص الكريتية وإلى جانب ذلك كانت هناك لوحات مكتوبة بلغة لم تكن معروفة لحين المباشرة والبدء بالحفريات برأس شمرة وقد تميزت لكثرتها وباختلافها عن كل اللغات السابقة من حيث التدوين إذ أنها لا تتضمن أكثر من ثلاثين حرفاً وإشارة وهذا يعني أنها أبجدية بالمعنى المعطى لهذه الكلمة بل تعد أقدم أبجدية نظراً للعهد الذي تعود إليه وذلك الأمر أثار اهتمام العلماء ودفعهم للغوص في أعماقها لفك رموزها.
لقد زاد من أهمية هذه الأبجدية ظهور لوحة صغيرة نقشت عليها أحرف اللغة الأوغاريتية بالترتيب الذي كانت تلفظ به وهذا الترتيب على وجه التقريب هو نفس ترتيب الأبجدية اليونانية التي هي أساس أبجديات العالم المعاصر جميعها ما يؤكد بصورة جازمة حقيقة الأصل السوري للأبجدية اليونانية، ومع ترجمة اللوحات المكتوبة باللغات الأخرى خرجت إلى النور صفحات ناصعة ومستندات هامة من تاريخ أهل أوغاريت تثبت فيها أحلى نشاطاتهم الفكرية أوجه حضارتهم الراقية.
بعد كل ما تقدم ذكره آنفاً فهذا لا يعني أن الشيء القليل عاجز عن إعطاء فكرة ممتازة ووافية عن فن وأدب أوغاريت فكما يعطي رأس عمود من معبد فكرة عن روعة الفن المعماري لذلك المعبد فيمكن بمقدور بيت من الشعر أن يكشف في بعض الأحيان عمق الجمال الشعري للقطعة التي وصل منها هذا البيت، فالنفس الشعري الممتد وصدى الموسيقى الداخلية الساحرة والاستعارات الرائعة وجمال التخيل والإبداع متوفرة كلها في تلك الملاحم رغم كل ما أصابها من تبدد وضياع.
وأخيراً ستظل أوغاريت رمزاً حياً في آثارها وشعرها وحضارتها كلها للعطاء الكامل والحقيقي والصادق الذي وهبته أرضنا للبشرية قبل أن تعي الإنسانية حقيقة وجودها ويتفتح أفق العقل وينطلق لحن اللسان وتتعلم الكلمات معانيها وتتخذ الحروف لنفسها أشكالها، يوم كان التاريخ ما زال على بطاحها طفلاً يحبو وكان العلم بذرة خير نمت في أحشاء سهولها المعطاءة حتى غدت شجرة وارفة وجد الإنسان في ظلها إنسانيته.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار