قمران يُبلّلان رسائل شفهيّة بمطر أيلول ويعبّدان الطّريق في وداع ابن السنديان الكبير عبد اللطيف عبد الحميد

الوحدة :20-5-2024

على بُعد أمتارٍ قليلة من موقع تصوير فيلمه الشّهير “قمران وزيتونة” رقد جثمان عميد السينما السورية وعرّابها الراحل الكبير المخرج السينمائي عبد اللطيف عبد الحميد بين غابات الصنوبر والسنديان.. حيث التراث الساحلي وما يحمله من خصوصية وحميمية عند استذكار تفاصيل حياة أجدادنا، والذي كان حاضراً في أدق تفاصيل أفلام المبدع الراحل المخرج عبد الحميد، والذي ما ادّخر مناسبةً ولا احتفالاً إلا وعبّر عن شغفه وحبّه الأزلي لهذا الريف العظيم.

فمن أفلامه تعبق رائحة الطيّون وشذا الحبق والياسمين والجوري والريحان، تسترق منا البسمة والضحكة في عفويتها وبساطة عرضها، عادات وتقاليد وطقوس ساحلنا الجميل حاضرةٌ على لسان شخوصها وعناوينها.. مستخدماً مفردات الريف العتيقة في سرد روحي يصوغ فيه شغفه بأرضه التي أحب.. يضمّنه قالباً من الطرافة والغرابة والعفوية حدّ السذاجة، في توليفة واقعية تحاكي مشاهد متكاملة تتقاطع في أحداثها وأسمائها وخيوطها. فيما يستذكر فصول قرانا الجميلة الوادعة، فها هي شتاءاتها تتعاقب حاملةً في جعبتها رعود كانون وأمطاره المنهمرة ودروبه المقفرة، وعلى نوافذه ينقر مطر أيلول لحناً شبيهاً بإيقاع القلب. ولنساء قريته الجميلات في حضورهن وعلاقاتهن مع أبنائهن وجيرانهن سردٌ شفيفٌ يليق بأناقة عاداتهن وطرق حياتهن التي كانت على بساطتها تدّخر كمّاً من الجمال والطيبة والمحبة. مفردات ريفنا أرضاً وسماء، موتاً وحياة، مؤونة وشتاء، قصص مات أبطالها وبقيّةٌ على قيد الحياة، بصدق كبير كان يروي حكاياته ورواياته، مستحضراً شموخ وشجاعة وبطولة أناسٍ غادرونا ومايزال نبض أبنائهم وأحفادهم حياً بيننا..

لم يخُن بيئته بل أخلص لها، وكان له السبق في أنه أول من استخدم لهجة أهل الساحل في فيلمه الأول ليالي ابن آوى، والذي صدم الجمهور آنذاك، ليكرر التجربة في فيلمه الثاني رسائل شفهية الذي حصد حضوراً جماهيرياً منقطع النظير وحاز جوائز عالمية عدة، ليبدع بعدها صانع الدهشة عبد الحميد في سلسلة من الأفلام مثل ما يطلبه المستمعون ونسيم الروح الذي أهداه لروح الموسيقار بليغ حمدي وحصد معه جوائز كثيرة، ومن قبلهم خارج التغطية والعاشق، ولاحقاً صعود المطر ومطر أيلول..

تفنّن الراحل الكبير في صناعة الكوميديا السوداء الساخرة، وهو الذي ألبس مرارة الواقع حلاوة الحلم.

ولا ننسَ تميّزه في أداء أدوار في بعض أفلامه أو أفلام غيره، لاسيما مع ولده “الرّوحي” المخرج جود سعيد، الذي خصّه بثلاثة أفلام هي: صديقي الأخير، وفي انتظار الخريف، وهذا العام فيلم “سلمى” الذي لم يُعرض بعد، فكان الممثل المبدع أمام عدسات غيره.

وخلال سنوات الأزمة أخرج باقةً من الأفلام التي كان لنا ولجمهور اللاذقية نصيبٌ في حضورها معه، وهو الذي كان يحرص دوماً على حضور عروضه الجماهيرية دون تصدّر مدرّجات المسارح، فكثيراً ما جلس في الصفوف الأخيرة ليلامس شغف جمهوره، واللحظات الأولى لعناقهم أفلامه، ومنها: أنا وأنتِ وأمي وأبي، وطريق النحل، وعزف منفرد، والإفطار الأخير، والطريق.

الراحل الكبير عبد اللطيف عبد الحميد الذي نعته وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية و المؤسسة العامة للسينما ونقابة الفنانين ترك وراءه إرثاً سينمائياً غنياً حمل قيمة كبرى في تاريخ السينما السورية والعربية عموماً.

ولابد من استذكار سيرته الشخصية والفنية حيث ولد عبد الحميد في عام 1954 وتخرج في دراسة السينما من معهد فغيك في موسكو عام 1981، واتسمت سينماه بطابع  حقق فيها صيغة سينمائية حملت بيئة الريف متميزة بالبساطة التي ظل محافظاً عليها حتى آخر أفلامه   الطريق. فمنذ فيلمه الأول ليالي ابن آوى الذي قدم عام 1989 ظهر أسلوبه المتفرد في السينما بمعالجة موضوعاته ببساطة و تلقائية وتابع مسيرته في فيلمه الثاني رسائل شفهية عام 1991 الذي حقق انتشاراً واسعاً لدى الجمهور السوري والعربي. كما قدم المدينة بروح ساحرة في فيلمه الأشهر نسيم الروح فقدم دمشق من خلال أحد أحيائها في قصة تقطر غرابة وشغفاً بالحب. وفي فيلمه التجريبي صعود المطر قدم سينما خيالية ساخرة لم يسبقه إليها أحد.

عبد اللطيف عبد الحميد هو أكثر المخرجين السينمائيين السوريين عملاً وتحصّلاً على الجوائز السينمائية، من خلال مشاركاته في مهرجانات محلية وعربية وعالمية، وحازت أفلامه على تقدير كبار النقاد في مشاركاتها.

واللافت في مسيرته الإبداعية أنه كتب كل أفلامه التي قام بإخراجها.

ويرى النقاد أنّ أفلامه حققت المعادلة السينمائية السحرية: من جهة إقبال جماهيري ونجاحات تجارية، لأنها تهز الأرواح وتنقب عن الجمال وتستخرج الضحكات.. وهي أيضاً مقدرة نقدياً وفي المهرجانات السينمائية لأنها صادقة، شديدة المحلية فكانت محليتها بوابة لانتشار مذهل يلبي الفضول المعرفي من قبل الآخر..

والأهم أن عبد اللطيف كان يملك خلطته السحرية التي تجعله يقدم وليمة سينمائية دسمة ملونة ومزينة، لكنه لن يدعوك في المرة الواحدة لتناول عدة أطباق..

ومن مدينة دمشق التي سكنته كما سكنها انطلق موكب تشييع المخرج السينمائي الكبير عبد اللطيف عبد الحميد إلى مسقط رأسه في بلدة البهلولية بمدينة اللاذقية، التي انحنت أشجارها وذبلت ورودها حزناً على فراق من سكب فيض حنينه إليها وغلّفه في ثنايا نسيم روحه جمالأً وطهراً وطيبةً ونقاء، ليكون في استقباله أبناؤها البررة وأهله ومحبّوه وأصدقاؤه الذين رافقوا موكب الجنازة سيراً على الأقدام عربون محبة ووفاء لصانع أمجادهم الفنية، وهم الذين أخذ بيدهم وغامر في ظهورهم الأول ليكسب الرهان ويحصد الجوائز والذهب.. لترثيه معهم كروم العنب والتين والزيتون وحقول الليمون وبيادر القمح وشقائق النعمان…

ستفتقد شاشات السينما ودور عروضها قامةً مبدعة ستترك مكانها فارغاً شاغراً لن يملأه أحد من بعده.

لروحك التي ارتقت مع صعود المطر السلام والخلود في سِفر المبدعين السوريين الباقين أزل المجد والتاريخ.

 

ريم جبيلي

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار