وقـــــال البحــــــر..لحظات في زمن الحرب

العدد: 9339

25-4-2019

يولد الإنسان مُبتدِأً حياته بصرخة القدوم، تمر الأيام والشهور والسنين ويزداد اقتراباً من صرخة الرحيل، بين الصرختين عمرٌ مخضبٌ بتناقضات الحياة، فرحٌ تشوبه الأحزان وحزنٌ توشّيه الأفراح، طموحٌ يسقط في مهاوي الإحباط وإحباطٌ يرتقي في فضاءات الأمل، نجاحٌ يكبو في أفخاخ الفشل، وفشلٌ يتلاشى على حفافي التصميم، زهدٌ يذوي في اختبار الطمع، وطمعٌ يتحطم على أعتاب القناعة، كرمٌ تقتله الحاجة، وحاجةٌ يقتلها التعفف، كرامةٌ يهدمها ذلٌ متربص، وذلٌ تقلبه الأقدار عزاً، بين الصرختين تتراكم الأحداث والمشاهد، يتشابك الحاضر بالماضي، ويختلط حابل الواقع بنابل الذكرى، ويبقى النسيان سيد الموقف بدونه لا يستطيع الإنسان أن يستمر بين الصرختين بوتيرةٍ متوازنةٍ لأن النسيان يعالج الآلام، ويبلسم الجراح ويحول الماضي إلى ذكرياتٍ تسري في الروح كالوميض لكن لحظاتٍ منتخبةً في مسيرة الحياة يعجز النسيان عن التعامل معها رغم قدرته الهائلة على التعامل مع مراحلَ كاملة تمر في رحلة العمر، هذه اللحظات تضحي جزءاً لا يتجزأ عن هوية الإنسان، ترسخ في وعيه بل وتطفو أثناء النوم في لا وعيه أحلاماً ومنامات.

هذه اللحظات تتميز في زمن الحرب بتحولها إلى معالم على طريق الحياة ما بعدها يختلف تماماً عما قبلها، هذه اللحظات تضحي تقويماً في عمر من عاش وقعها.
اللحظة التي قبضت فيها يده على الزناد معتلياً ظهر ناقلةٍ مدرعة متوجهة إلى أتون النار هي لحظةٌ تفصل بين مقعد الدراسة ومربض الرشاش، بين طلب الحياة ومناجاة الموت.
اللحظة التي قبّلت فيها جبين ابنها الشهيد قبل أن يغيبه الثرى هي لحظة تفصل بين أمومة الأمل وثكل الألم، بين تجسد حلمها في رؤيته يافعاً متقداً وانكسار روحها التي غاب جزء منها معه تحت التراب.
اللحظة التي تناهى إلى سمعه فيها صوت انفجار قنبلة الهاون في الشارع متزامناً مع خروج أطفاله إلى المدرسة هي لحظة تفصل بين عائلةٍ يملأ رنين أطفالها فضاء المنزل وبقايا أسرةٍ تقبع بين جدرانٍ يملؤها صمت صورٍ مكللة بشرائط السواد.
اللحظة التي رأت فيها دمعةً تشق طريقها على وجه أبيها أثناء دخولهم مأوى النازحين، جبل الأمان الذي لم تكن تتخيل يوماً أن ريحاً تستطيع هزَّه، هي لحظةٌ تفصل بين دفء الاستقرار وصقيع التشرد.
كل تلك اللحظات تختصرها لحظةٌ واحدة، اللحظة التي تنتقل فيها الرصاصة من مخزنها إلى حجرة الانفجار، هي لحظةٌ توحد كل صرخات الرحيل في صرخة البندقية.

شروق ديب ضاهر 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار