بالأيدي.. والأرجل

  1. الوحدة : 12-8-2022

 طَرَقْتُ باب جارتي أريدها في أمر ففتح أطفالها الثلاث الباب، أشاروا بأصابعهم الغضة إلى الداخل : الماما تلعب هناك! جاءت جارتي مسرعة من المطبخ: أهلاً جارتنا تفضلي، التفتت إلى أطفالها بسحنة غاضبة ووجه مكفهر : كم مليون مرة يجب أن أنبهكم، لا تفتحوا الباب لأحد أنا من يقوم بذلك، نظرت إليَّ متسائلة بيأس: أيُّ متعة يجدها هؤلاء القرود الصغار في مخالفة التعليمات؟ أجبتها ضاحكة: هذا يتبع لهيبة الغوريلا صاحبة التعليمات، انتابتها موجة من الضحك بينما كنت أمعن النظر إليها، كانت ترتدي ملابس الرياضة ويبللها العرق من رأسها حتى أخمص قدميها وكأنها خارجة للتو من المسبح، سألتها باستغراب: أي نشاط هذا الذي تتمتعين به؟ أي طاقة إيجابية تعتريكِ؟ في هذا الحر الذي لايطاق ومع انعدام التيار الكهربائي وشح الماء تمارسين الرياضة في المطبخ؟ هزت برأسها وأمسكت بذراعي وقادتني إلى مطبخها: تعالي فانظري أي رياضةٍ أمارس، في المطبخ تحت حوض المجلى يتوضع على الأرض وعاء غسيل بلاستيكي واسع وعميق تسبح فيه ملابس الغسيل في الماء الممزوج بالمنظف وداخل حوض المجلى يستقر وعاء آخر يحوي ملابس غسيل تسبح في ماءٍ قادمٍ من الصنبور فوقه، شمّرت جارتي عن ذراعيها وساقيها قائلةً: تمارسين الظلم والإجحاف عندما تقولين ” انعدام التيار الكهربائي”، فالتيار الآن موجود ولكن لمدة لا تتجاوز النصف الساعة والحمدلله هذه المرة يتواقت قدوم الماء مع الكهرباء، والآن يتوجب عليّ القيام بما عجزت غسالتي الخارقة المجمَّعة محلياً عن فعله، الآن ستشاهدين بأم عينك المرأة السورية الخارقة التي تسابق الكهرباء في أسلاكها والمياه في أنابيبها، ستشاهدين الغسالة البشرية التي أذهلت جلاوزة المخترعين في ألمانيا واليابان، قفزت إلى وعاء الغسيل على الأرض وبدأت تخبّط الغسيل بأرجلها بينما تبرد وتعصر الغسيل في وعاء الحوض بيديها، العرق يتصبب من كل أنحائها، وجهها محمر منتبج، شعرها مندوف كالقطن رغم بَلَلِه، تطبق بفكها السفلي على شفتها وتهمهم أثناء عملها كمُحَرِكٍ صدئ قديم، أخذت أراقبها وأفكر كيف أضحت السيدات السوريات يسابقن الزمن بالأيدي والأرجل، يقارعن القهر.. ويصارعن الظروف بالأيدي والأرجل، قطع تفكيري صوت جارتي المتقطع اللاهث: أديري جهاز الراديو عن يمينك من فضلك، قمت بتشغيل الجهاز ويالمحاسن الصدف، المذيعة ترحب بضيفتها من الحركة النسوية وتسألها عن المرأة السورية في التاريخ، أخذت الضيفة بصوتها الرخيم تعدد أسماء النساء السوريات العظيمات وأفعالهن العظيمة على مرِّ التاريخ، جوليا دومنا، زنوبيا، أورنينا، ضيفة خاتون، نازك العابد، ماري العجمي، فضة حسين، عادلة بيهم الجزائري، مي زيادة، وردة اليازجي، كوليت خوري، غادة السمان… توقفت جارتي عن غسيلها وكأن التيار انقطع عنها، ونظرت إليّ مشيرة إلى المذياع ثم أشارت إلى نفسها وهي تقف في وعاء الغسيل وغرقنا معاً في نوبةٍ من الضحك المجنون.. ضيفة البرنامج الإذاعي تتحدث عن زنوبيا التي قارعت الرومان بالنار الإغريقية بينما تقارع حفيدة زنوبيا غسيلها المكدّس بالأيدي والأرجل… وفي أحد المكاتب يجلس أحد القائمين على ملف الطاقة الكهربائية مدليّاً رجليه تحت مكتبه وشابكاً يديه فوق سطح المكتب يتبسم للكاميرا أمامه ويعلن قرب البدء بتحسين إمداد الطاقة!!.

شروق ديب ضاهر

تصفح المزيد..
آخر الأخبار