وقال البحر … المجتمع المدني

الوحدة 14-7-2021

 

 

يميل الإنسان في مجتمعه إلى تقسيم حياته لحقب ومفاصل تاريخية، يضعها هو بنفسه ومن ثم يتقيد بها، وإذا كانت تلك الحقب الصغيرة لا تُشعر بالرهبة عند مرورها كون أن مرور الساعة غير مرور الأسبوع، إلا أن الحقب المجتمعية الكبرى كمرور قرن من الزمن، وكذلك الحوادث الكبيرة، والأحداث الجليلة تجعل الإنسان يقف أمامها متأملاً ومحاولاً سبر غورها، أو الخروج منها بدروس مستفادة، ومواعظ هامة على صعيد حياته المجتمعية، ويعجب المرء عندما ينظر إلى ما مر به (خاصة عندما ينتصف به العمر) فيجد أن عمره عبارة عن مجموعة من الحقب العشرية أولاها وثانيتها تربوية، وثالثتها مرحلة تكيف مع مطالب الحياة، ورابعتها وخامستها عمل وممارسة نشاط، ومن ثم يأتي الاستعداد لمغادرة الأرض وداعاً والانضمام لمن هم تحت الثرى، ومعظم الناس تخبو ذكراهم في مجتمعهم بعد سنوات قليلة فقط إلا في أضيق الحدود، ويسأل الإنسان نفسه في وقت من هذه الأوقات: ماذا تركت من بصمات وآثار كي يذكرني الناس بها في هذا المجتمع، وقد أضحى تعبير المجتمع المدني هذا المصطلح الرنان أحد أهم المصطلحات المتكررة دوماً في صياغة طبيعة الخطاب الموجه بكل أشكاله، وتظهر أهمية فكرة المجتمع المدني بدقة من خلال عملية التمكين والتقوية اللازمة للمجتمع الراغب في حفظ حريته وصيانة حقوقه فالثقافة المدنية القائمة على الاحترام والطاعة التلقائيين للقانون لا بد أن تتعمق بجدية وتتبلور بوضوح، وتنتشر بكثافة، وكذلك لا بد أن يتكون للمجتمع بحد ذاته منظومة من المؤسسات ومناهج للعمل الاجتماعي المنظم وربما قبل ذلك وفوق كل ذلك يجب أن يكون للمجتمع قاعدة اقتصادية قادرة على الحياة والازدهار والاستمرارية كي تضمن في نهاية المطاف نشوء نظام مدني إضافة إلى تمدد وتوغل شتى أنماط الأنشطة والفعاليات المدنية المختلفة في دروب ومسالك الحياة الاجتماعية كافة.

المجتمع المدني من الناحية الفلسفية والفكرية هو ذلك المجتمع من الناس الذين يفكرون ويؤمنون بوحدة الكائن الإنساني وترابط مصيره وينشدون من صانعي السياسات إنتاج آليات مواتية للتحرر الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والثقافية المتوازنة لكل الناس مع احترام التعددية الثقافية والحضارية في نفس الوقت، ولا ينتمي المجتمع المدني إلى أي تكتل مهني أو سياسي أو حتى طبقي متجانس، وإنما يشمل فئات تُؤهلها ظروفها المادية وقناعاتها الفكرية للتفكير بشكل متمايز، والقيام بدور مهم جداً في تحريك جدلية التحرر والتطور المتوازن، والدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية، وفي سياق تعريفي آخر يجد البعض بأن المجتمع هو كيان تَنشّد أواصره ومكوناته بعضها لبعض بفعل الثقافة المشتركة، وتتعمق وحدته الداخلية وكذلك الحدود الفاصلة بينه وبين مختلف الكيانات بتأثير التشريع الخاص به، والذي تنفرد الدولة بوضعه وتطبيقه، وهذا يعني أن المجتمع يتكون في وعاء الوطن من حيث أنه عاطفة انتماء وهوية يُتوج روابط معينة على درجات عالية من القوة والصمود في مواجهة شتى أوجه متغيرات الزمان والمكان، ومن المعروف جلياً بأن تعبير مصطلح المجتمع المدني هو شيء خارج عن المألوف من حيث كونه مساحة معينة ينشأ فيها مجتمع لا يرتبط فيه الناس معاً بمشاعر وعواطف واحدة حيث أنه مجتمع لا يقوم على السياسة، ولا يتحد بتأثير عوامل الإيديولوجيا فارتباط الناس فيه قائم فقط على عوامل وأواصر المدنية بما تحمله هذه اللفظة من تعدد في المعاني والمقاصد، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن القاعدة الاقتصادية المستقلة عن الدولة والقادرة على الحياة ومناحي الازدهار دون التبعية الحكومية هي التي تضمن نشوء نظام مجتمعي مدني وتمدد وتوغل مختلف أنماط الأنشطة والفعاليات المدنية في دروب ومسالك الحياة الاجتماعية على اختلاف صورها.

اقترب العالم من بعضه البعض فعلياً بفعل تأثير القفزات المتتالية في عالم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والصحافة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي ودوران الحركة الثقافية على مدار الأيام، وتوسعت التفاعلات في المجالات المختلفة بين مختلف أصقاع العالم، وهذا ما ولد الاقتراب والتداخل وحتى التقارب بين الشعوب من حيث تناقل الأفكار وتبادل المعلومات الصادرة منهم أو عنهم في نفس اللحظة التي يفكرون فيها أو حتى يمارسون بها عمليات الإنتاج الفكري في كل مكان على وجه البسيطة، ولا يخفى بأن فجوات التطور الكبيرة والفوارق الواضحة في مستويات الرفاه والرخاء في أي فترة زمنية سابقة لم تكن بأوسع مما هي عليه الآن، إضافة إلى أن المبادلات التجارية والعمليات الاتصالية قاربت المجتمعات بدرجة كبيرة، وساهمت في تدفق الفعاليات الثقافية والمهرجانات والكرنفالات العالمية بدرجة مؤثرة، ونتيجة لتأثير كل ما تم ذكره يُثار في الذهن قضيتان تُقلقان عقلية القارئ المُتابع والباحث النهم فالقضية الأولى تتلخص في ماهية حقيقة الحديث الجاد والمحدد عن مصطلح المجتمع المدني أم أن التعامل مع هذا المصطلح بأسلوب الاستعارة والكناية هو فقط لإضفاء جماليات معينة على مسمى يُحتمل أن يكون غير موجود بالفعل، وأما القضية الأخرى فترتبط بمغزى وروحية هذا المصطلح ومدى نفوذه وفاعلية دوره في أوساط الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع.

د. بشار عيسى

تصفح المزيد..
آخر الأخبار