الوحدة 1-6-2021
يُمكن تلخيص ماهية القصة القصيرة بالتعريف المبدئي بأنها تقطير للحظة قصيرة مكثفة لا تحتمل التطويل الزمني، وعليه فيمكن القول بأن القصة القصيرة ليست شريحة من الحياة لأن الحياة شيء والعمل الفني داخلها شيء آخر كما أنها ليست انعكاساً للمجتمع إلا بقدر معين حيث لها وجود نابع عن وعي الكاتب إضافة إلى أنها ليست مجرد آلة صغيرة مصنوعة ومحكمة التركيب تدور تُروسها الصغيرة في قنواتها وتدق وتسقط في اللحظة المناسبة في مجراها الأخير المُعد سلفاً في لحظة التنوير كأنها من عمل بعض الهواة المهرة وبخفة اليد الخادعة ومن ثم فلعله من المهم جداً الربط بين المؤشرات التي جاءت على درجة معينة من التنظير والمؤشرة إلى روحية عمل فني، وفي نفس دائرة السياق فإن الأدب الاستهلاكي أو السلعي الذي يتخذ شكل الأدب يُمكن أن يكون بالفعل شريحة من الحياة وتركيزاً على لحظة زمنية، ولعل القصة القصيرة مجرد حمل لرسالة فكرية أو منتج جيد ومُحكم لا يناله النقص ومغلق على ذاته و غير مفتوح لدلالات أخرى.
في سياق التأملات يخطر ببال كل متابع تفسير سريع لقلة نتاج القصة القصيرة فيجد أن هذا النوع من الإبداع لم يُعد قادراً على تحمل الكثافة والازدحام والاحتشاد في الوعي الذي يتم مواجهته بالضرورة بعد تراكم آفاق التراث الفني الطويل وهذا يشير بطريقة أو بأخرى إلى التقارب البارز والواضح أيضاً بين القصة القصيرة والشعر بحيث أصبحت القصة تقترب كثيراً أو تكاد الحدود تختفي بينها وبين القصيدة فلا تتناول القصة إلا هذه اللحظة الوجدانية الفكرية المكثفة ولعل ذلك من أسباب ظاهرة القصة التي تتأثر بعوامل البيئة الثقافية المختلفة، ومن المعلوم بأن الرواية لم تُعد انعكاساً للمجتمع أو لحياة شرائحه ولم تُعد أيضاً تلك الصيغة المتعارف عليها في طرح الفكرة أو التحليل مع عرض جهد الكاتب في تحليل الشخصيات ونوازعها النفسية وظروفها الاجتماعية لوضعها في موضع تتبدى فيه المشكلة المُراد معالجتها ومن ثم يخلص هذا الوضع إلى نوع من صور الخروج من المأزق الذي وُضعت فيه الشخصيات مع الانتباه إلى التوازن والتجاوب بين الوصف والتحليل والحوار والتعليل لتكوين الوصفة التقليدية.
انطلاقاً من المعايير الأولية بأن السردية بمعانيها المختلفة وغير المعهودة هي الغالبة والسائدة في القصة القصيرة أو حتى في الرواية بينما الشعرية والإيقاعية هي الخصيصة السائدة في القصيدة النثرية يُعتبر مفهوم القصة القصيرة والفن بصفة عامة هو رسالة الخلق والإيجاد بمعنى أنه لم تُعد الرواية لظروف اجتماعية واضحة تحتاج إلى توضيح وبيان فقد مرت المجتمعات بزلازل سواء من حيث الحروب الضارية أو موجات المشاكل اليومية الحياتية التي أدت بشكل أو بآخر إلى تغيير طبيعة الجنس الأدبي فأصحبت الرواية والقصة القصيرة نمطاً أدبياً مفتوحاً بعيداً عن الوصفات التقليدية المُتبعة وبات التصور للقصة القصيرة أبعد ما يكون عن التجريد وظهرت معالم القصة تتبلور بحشد يمور بكل عناصر الحياة ويتفاعل معها في السير بخطوات إلى الأمام نحو المجهول الذي يُسمى مغامرة الفن والتغيير الجمالي والخُلقي والاجتماعي أيضاً.
إن المحاور الرئيسية التي تدور حول لُب مسعى القصة القصيرة الفني والوجودي تتمثل بذلك التوق المُحرق نحو الصفاء المنبثق من كثافة حسية وشبق بالحياة وأيضاً محاولة تأكيد كرامة الإنسان في وجه قوى القهر التي تتأتى من وقوع الإنسان في قبضة شروط قاسية وقاضية مثل: العجز والمحدودية والظروف الاجتماعية بكل ما تحمله من قسوة مفرطة، مع عدم التغافل عن التناقض الأبدي بين الكرامة التي تُعد خصيصة الإنسان الأولى والأساسية و بين أشكال القهر النفسي والمجتمعي معاً بكل صوره ومنها على سبيل المثال الرغبة في الحب والذوبان في الآخر ونقيض ذلك تماماً في انفصال الإنسان المحتوم وانغلاقه على نفسه، ولعل جوهر المادة الخام في تجربة القصة القصيرة وفي خبرة الحياة هي نفسها ذلك التوتر بين النسبي والمطلق وهو توتر ناشئ عن توحد وتقمص وفي الوقت نفسه هو ازدواجية أو ثنائية أو ربما تناقض، كما أن تلك المادة الخام وجه من وجوه المخاض والميلاد والموت في القصة القصيرة وفي الحياة على السواء.
د. بشار عيسى