الوحدة 4-5-2021
لا يمكن تصور مجتمع قائم حضاري دون قراءة، ولا يحق لأمة أن ترنو ببصرها وتتلهف بقلبها وتشرئب بعلو همتها أن تُدرك سلم التقدم ومعالي الحضارة بالاستغناء عن فعل القراءة، فالقراءة هي جوهر الحضارة ومفتاحها الأصيل وحصنها الحصين الذي يجمع جواهر الفكر وخزائن المعرفة، وهي الثروة الحقيقية للمجتمع فبها تُعرف الحقائق وتُدرك المسالك، ووجودها في سائر مكونات المجتمعات كالمنارات العالية التي تُلقي بأشعتها من أعلى الجو إلى مدى بعيد في الآفاق، كما أن غيابها عنها يعني فقرها الثقافي وحرمانها المعلوماتي وشدة محدوديتها الحضارية، والقراءة نور ومن طبيعة النور تبديد الظلام كالنجوم في مناطها من الفلك تُرسل شعاع النور ساطعاً لامعاً في الليالي الحالكات، وأي شيء أجدى من ثقافة العقل؟ فلا جدال في ذلك لأن القراءة تجلو الأبصار وتُمتع بحسنها الألحاظ وتشحذ الذهن وتُقوي القريحة وتستثير دفائن القلوب كما أنها الطريق الذي سار على دربه كل الأسلاف الذين كانوا يجدون في طلب العلم والمعرفة والوصول إليها حتى لو كانت تحت التراب، وقد كانوا ينظرون إلى الكتب باعتبارها منافع تزخر بها مكتباتهم ومفاخر تعتز بها أمتهم وتسمو بها عقول أبنائهم، وهي المنطلق الذي قامت على أساسه الحضارة العربية الوفيرة والتي بدأت بالأمر الإلهي (اقرأ).
لا يُدرك المرء حقيقة القراءة إلا إذا وجد في لحظة ما التشخيص الواقعي للقراءة وحقائقها وجواباً للسؤال الجوهري: لماذا اتسعت المسافة بين القارئ والكتاب ولماذا وُلد هذا التباعد العميق الناشئ بينهما؟، ولعل ما حدث مع القراءة في كثير من الأماكن والأصقاع من انقطاع بائن وعوز شديد يُؤكد فعلياً وجود أزمة قراءة، ولا أدل على ذلك من أن سواد المجتمعات الأعظم اليوم يُعاني هذا النقص المدقع والداء العضال في صور العزوف عن القراءة من خلال كساد سوق الكتاب وغشاوة القلوب التي بسطت خيوطها عليه، ولا يجب إغفال مشكلة الأمية المعروفة وهي الجهل الذي يسبق المعرفة فهذه أمية القراءة والكتابة والأقلام والدفاتر ونسبتها غير يسيرة في بعض المجتمعات، وهناك أيضاً مشكلة الأمية المعرفية وهي أمية مجال المعرفة المعلوماتية وتقنيات علوم الكومبيوتر والإنترنت وتطبيقاتها، ولعل لُب مشكلة التراجع القرائي في المجتمع لا تنحصر في عدد الأفراد الضئيل الذي يُقبل على القراءة بل هناك صيغ أخرى لمثل هذا ومن ذلك مثالاً مشكلة القلة القليلة من الناس التي تُقبل على الكتب والرغبة في الاقتناء لوضعها في مكتبة البيت لمجرد الديكور المُنمق والزينة المُزخرفة وهذه الشريحة تطل على المكتبة إطلال الواقف على الأطلال والباكي على الآثار فلا تُقارب الكتب إلا من بعيد ولا تنظر إلى عناوين ومضامين الكتب إلا كما ينظر الجواهرجي إلى صور ثروات الذهب والفضة والدرر النادرة والتحف الثمينة، وهنا يكمن الفرق فعلياً بين من يُراقب الكتب فقط و بين شخص منسجم ومتفاعل لم يعرف الكتب على أنها مُجرد مقابر تُدفن فيها العقول في رحاب هذه السماء الثقافية الداجية المُدلهمة أو جملة أفكار تكون مأسورة داخل الأذهان حبيسة يائسة بل عرفها كما هي حقيقتها ونمط طبيعتها الصادقة التي سكبت المعاني في مبانيها وأحاطت بالقارئ من شتى نواحيها ونقبت بعمق عن مكنون أفكارها المخبوءة في مناحيها وكذلك مهدت فتح الطريق إلى كنوز المعرفة الدفينة.
القارئ الجيد لا يمكن أن تطيب له هذه الحياة الجامدة والطبيعة الراكدة دون وعي بالقراءة بشكل فعال وهناك ذرائع شتى يتشبث بها بعض الناس وأوهام عديدة يختلقونها لتبرير عزوفهم القرائي كمشكلة ضيق الوقت وكثرة الواجبات الحياتية التي امتصت الوقت ولم تترك أدنى فرصة للقراءة وكذلك مشكلة العوز المالي والقدرة الشرائية ويذهب آخرون إلى أن عادة القراءة لم تُعد ضرورية ولا مطلوبة كما كان الحال فيما مضى، وعلى الضفة الأخرى فإنه متى صدق المرء في حبه للقراءة وما فيها من طيب زاد العقول ونعمة الحكمة وسلطان البيان كانت فكرته فكرة مضافة للوجه الآخر ويماثله في الشعور ويرافقه في الإحساس وبذلك تدخل روح الفكرة بهذا التلاقي والتفاعل والتكامل والانسجام إلى عالم الأفكار لتزيده قوة ومتعة وعمقاً، ومتى بلغت أمة ذروة أشدها واستوى عودها وعرفت حقيقة قدر القراءة نالت عزها واسترجعت حضارتها وحصنت كل أفرادها من التقهقر والتلاشي والفناء من خلال تشجيعهم على الإبداع والحوار البناء والإقبال الواعي على عادة القراءة وكذلك تأهيلهم للدخول إلى عمق عالم الكتب والمكتبات وفسح المجال الرحب للأدب والأدباء وتقديس العلم وتبجيل العلماء وإعلاء شأن الكتّاب ورفع قيمة الفكر والأفكار تحقيقاً لمقولة: الكتاب أغلى من أن يُقاس بثمن والقراءة بحق أثمن من أن تضيع ومقدار الشيء يُعرف من قيمته وليس من ثمنه.
د. بشار عيسى