الوحدة 27-4-2021
منذ أن هبط الوحي على النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام في جوف الغار في تلك الليلة الرمضانية ليقول له (اقرأ)، أصبح الجميع في حالة مطالبة بقراءة القرآن الكريم، واستجلاء معانيه على مر الأزمان والدهور، ويأخذ القرآن سبيله إلى القلوب والأفئدة، ويستولي على النفوس، فيفك أغلالها، ويهدهد كبرياءها، فلا تلبث أن تنشرح له الصدور، وترقّ لسماعه القلوب، كما أنه نزل شفاء للصدور، ورحمة للعالمين، ودليلاً للهداية، فهو أكبر معجزة عرفها التاريخ سواء على الصعيد الإنساني أو الحضاري، وفي محاولة تحدي القرآن فقد وقف العرب حيارى أمام بيانه وتصريفه وبلاغته ولغته، ووجدوا فيه نمطاً فريداً لم يألفوه من قبل، فهو ليس بالشعر ولا الكهانة، ولا يستطيع أن يقوله بشر، ولذا شهدوا بعظمته، ونطقوا بإعجازه، وبالنظر إلى معجزات الأنبياء والمرسلين فإن عظمة معجزة القرآن الكريم أوضحها دلالة لأن الخوارق في الغالب مغايرة للوحي الذي يتلقاه الأنبياء أو الرسل وتأتي المعجزة شاهدة فقط وأما القرآن الكريم فهو نفسه الوحي وهو الخارق المعجز فدلالته في عينه كما أنه مُعجز كله من ناحية معناه ومبناه، ومن الأسرار الدقيقة في القرآن الكريم تأثيره في القلوب وسلطانه في النفوس لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظام وتأليف ومتضمناً أصح المعاني من توحيد الله وتنزيهه في صفاته والدعوة إلى طاعته وبيانه لطريق عبادته من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ووعظ وتقويم وكذلك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ومكارمها والزجر عن المساوئ، ويُلاحظ بأن نظم القرآن الكريم جاء في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا يبطل زعم من ادعى بالقدرة على الإتيان بمثله كما أنه لو نُزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يجدوا وبهذا قامت الحُجة على العالم بأسره بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة السماحة.
نزل القرآن الكريم في بضع وعشرين سنة وتألف من سبع وسبعين ألفاً وأربعمائة وسبع وثلاثين كلمة، واكتمل القرآن الكريم في هذه المدة على طريقة معجزة يستوي أولها نزولاً وآخرها في النظم والبلاغة والإجراء والغرابة بحيث لا يستطيع إنسان أن يعين فيما بين دفتيه موضع تنقيح أو يومئ إلى جهة في تهذيب أو يستخرج ما يدل على ضعف في نسقه واطراده أو لفظه ومعناه ولم يعهد في تاريخ الأرض كله أن كلام أحد من البشر يحفظ له البلاغة ما تستمر على مثل هذه الطريقة بضعة وعشرين عاماً ثم لا ينقص ولا يضعف ولا تختلف طبقاته ولا يتفاوت أمره في كل هذه المدة مع اختلاف أحوال النفس وأمور الزمن ومع إحصاء كلامه و جمعه لفظة لفظة والذهاب له حفظاً وتلاوة حتى لا يجد السبيل إلى تغيير كلمة واحدة بعد أن تفصل عنه، ومن أوضح و أنصع أسرار الإعجاز في هذا الكتاب الكريم أنه نزل بلسان عربي مبين بين عرب فصحاء طُبعوا على الصراحة في الرأي والشجاعة في القول والأنفة من الذل وقد تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله ثم تنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ثم التحدي بسورة واحدة من مثله، وهكذا كانت سورة واحدة وآيات يسيرة أنقض لقولهم وأفسد لأمرهم وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون العرب في الرأي والعقل الفصاحة.
ومن صور إعجاز القرآن الكريم أن أكثر لطائفه مودعة في الترتيبات والروابط،
وأيضاً اتحاد طريقته في الإبداع والقوة كأنما وضع جملة واحدة ليس بين أجزائها أي تفاوت أو تباين ومرد ذلك إلى روح التركيب التي تنعطف عليها جوانب الكلام الإلهي ويتم لمح جمال هذا التركيب في نُظم الكلمة وتأليفها ثم في تأليف هذا النظم فمن هنا تعلق بعضه على بعض وخرج في معنى تلك الروح صفة واحدة هي صفة إعجازه في التركيب، ومن الجدير ذكره أن أغلب العلماء أكدوا أن جميع ألفاظ القرآن الكريم متميزة من جنسها بحيث إذا وُجد تركيباً قرآنياً في نسق الكلام دل على نفسه وأرشدت محاسنه إليه لما له من صفة إلهية مع لحظات متعبدة ووقفات متأدبة تُعاش مع آيات الله عزّ وجلّ.
د. بشار عيسى