د. عدنان أحمد.. ومشكلة الأعجمي في اللغة العربية

العدد : 9552
الثلاثاء : 17 آذار 2020

 

أريد بـ (العربية) في هذا العنوان، اللغة العربية التي نعرفها حتى نهاية عصر الاحتجاج، اللغة التي نهتدي بهديها ونحتج بها، وعندما نهتدي بهذه اللغة ونحتج بها، فنحن نقرّ ونسلّم بهويتها أولاً، وبسلامتها ثانياً، ولذلك قد يكون من المثير للتساؤل القول: إن في العربية ألفاظاً ليست عربية، وعلى ذكر الألفاظ هل يمكن الاطمئنان إلى أنّ جامعي اللغة كانوا قادرين على جمع ألفاظها كلّها، من مواطن أصحابها كلّهم؟ تخبرنا المصادر أنه عندما بدأت مرحلة جمع اللغة، انصرف إلى هذا العمل النبيل العلماء، ولكنهم لم ينصرفوا إلى جمع اللغة كلّها التي يتكلّمها العرب، بل إلى جمع اللغة النقّية التي لم تشبها شائبة، على وفق معيار نقاء هم اختاروه، وهم حددوه، ولم يقبلوا منها ما كان يخرج عنها.

بهذه الكلمات استهلّ الدكتور عدنان أحمد رئيس قسم اللغة العربية في جامعة تشرين محاضرته التي حملت عنوان: (مشكلة الأعجمي في اللغة العربية) وذلك في صالة الجولان بمقر فرع اتحاد الكتّاب العرب باللاذقية، وللدكتور أحمد مؤلفات عديدة نذكر منها: دراسات في الشعر الإسلامي والأموي، ومقالات في شعر الجاهلية وصدر الإسلام، أزمة الشاعر المخضرم، الأدب الإسلامي، في الأدب الأموي، ديوان النجاشي الحارثي، إضافة إلى مقالات متنوعة في مجلات دورية كثيرة، تدور الفكرة الأساسية للمحاضرة أنّ ألفاظ القرآن الكريم كلها عربية، وليس فيه أي لفظ غير عربي، وما قاله بعض القدماء ويؤيده بعض المحدثين من وجود ألفاظ أعجمية يفتقر إلى الدقة لأن القدماء أو أكثرهم والمحدثين أو أكثرهم لم يلتفتوا إلى قضية هامة وهي أن الذين جمعوا اللغة وصار يقاس على مجموعهم ما هو عربي وما هو غير عربي لم يزعموا أنهم جمعوا مفردات اللغة كلهم بل جمعوا ألفاظ قبائل هم حددوها واستنبطوا من تلك الألفاظ وحدها الأوزان التي جعلوها مقياساً لمعرفة العربية من غيرهم، وضمن السياق ذاته أشار د. أحمد أن العربية عرفت ثلاث لهجات هي العربية في جوف الجزيرة وهي التي نسميها العربية الفصيحة اليوم ولهجة أخرى في الشرق كانت تسمى السريانية ولهجة أخرى في الغرب كانت تسمّى الفينيقية والعربية الفصيحة كانت فيها بقية من تلك اللهجات كذلك كانت تلك اللهجات فيها بقية من العربية الفصيحة وطرح د. أحمد أمثلة على ذلك قائلاً: لا يعقل أن يجمع القدماء على أن اسم (آدم) مثلاً أنه عربي ثم يذهبون إلى أن اسم (إبراهيم) مثلاً غير عربي لأنه خرج عن الأوزان التي وضعوها، وهذا كله يتطلب أن نعيد النظر في معنى الأعجمي والحقيقة أن الناس فهموا من لفظة أعجمي أنه غير عربي ولكن المعاجم مثل لسان العرب مثلاً يبين أن الأعجمي هو الذي لا يفصح سواء كان من العرب أم من العجم، وهذا يعني أن لفظ أعجمي لا يعني أنه غير عربي، بل يعني أنه من لهجة أقل فصاحة من العربية التي اعتمدها القرآن الكريم، وحول نفس الموضوع أضاف المحاضر قائلاً: وليس من الإسراف القول إنهم جعلوا لقبول اللغة شروطاً كانت مجحفة، لم تحققها إلا قبائل قليلة، فالذين (عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم أقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد)، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكلّ في الغريب وفي الإعراب والتصريف.
ثمّ هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضريّ قط، ولا عن سكان البراري، فمن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم، والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء، وأثبتها في كتاب فصيّرها علماً وصناعة، هم أهل البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب وهكذا عزل العلماء عن مجال الاستشهاد معظم القبائل العربية، وإذا كانوا قد عزلوا كلّ هذا، فما الذي يبقى لهم من اللغة؟ هذا يعني أن علماء البصرة والكوفة أعطوا أنفسهم حق تحديد هوية العربية، وتحديد مفرداتها وتعقيد قواعدها وأوزان أبنيتها، ثم جعلوا ما فعلوه حجّة عليها لا حجة لها، فما خرج عن الأوزان التي استنبطوها، أو الألفاظ التي جمعوها، عدّوه دخيلاً عليها، غريباً عنها، وأردف المحاضر بالقول: وعندما وقف بعض القدماء على ألفاظ هذا القرآن الكريم وجدوا بعضها يخرج عن الأوزان التي استنبطها اللغويون للألفاظ العربية، التي كانت بين أيديهم، فحكموا عليها بأنها ليست من العربية، ويبدو أن هذا الحكم لاقى بعض القبول، فتناقله كثيرون من غير تدقيق أو تحقيق حتى اضطر إلى التوقف عنده، والقول فيه جماعة من العلماء منهم الإمام الشافعي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو بكر الباقلاني وغيرهم، وقد ذهب هؤلاء جميعاً إلى أنه ليس في القرآن الكريم شيء من غير لغة العرب، وذهبوا إلى أنه لا يمكن لأحد أن يحيط باللسان العربي، وإلى أنه لا يصحّ أن يكون في القرآن غير عربي واللّه سبحانه وتعالى يقول: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه)، وفي حديثه عن الصيغ المأخوذة من اليونانية قال: إن هذا يدعو إلى التذكير بأن نصف اللغات الأوروبية هي (من لغتنا القديمة، ألفاظاً وأدوات تعبير، ومنطق جملة) وحتى لا يظن ظانٌ أن هذا القول يعبّر عن (تحيّز) أكثر مما يعبر عن حقيقة علمية، أذكر ما قاله أحد المستشرقين المنصفين: (كان الإغريق معروفين دائماً بأنهم تلاميذ مصر وبابل، إنّ يوسف فلافيوس يدّعي أن علوم الكلدانيين قد انتقلت بواسطة إبراهيم الخليل إلى المصريين، ومن هؤلاء إلى الإغريق) ويقول أيضاً: (إن الإرث الثقافي والعلمي والديني، الجوهري قد زوّدنا به العرب، ينبغي ألا نعكس الأدوار وألا نجعل من اليونان الذين ليسوا إلا ورثة آباء أسلافهم الروحيين العرب) وإذا كان الإغريق قد أخذوا اسم (أبولو) الذي كانوا يعتقدون أنه إله الشمس والموسيقى، غير ذلك من الفينيقية، فكيف نصدق أن العرب كانوا محتاجين إلى استعارة ألفاظهم؟ بل، اسم قارتهم كلها مأخوذة من عربيتنا القديمة، فـ (أوروبا) هو اسم بنت أجينور ملك صور ومعناها: العظيمة، الكبيرة، الشريفة من الفعل المتعدي ( يرب، أي كبر، عظم، نما، ازداد، ارتفع، و أورب هو الفعل المتعدي ويعني: كبّر وعظم)، وختم د. أحمد محاضرته قائلاً: إنّ العرب الذين أعطوا البشرية ما جعلها تتحضّر، وتتخلص من همجيتها، لم يكونوا عاجزين عن تسمية أبنائهم ومواضع سكناهم وليس أقل من أن نحترم ذلك، فلا نحكم عليهم بالغباء، ويكفي أن الأوروبيين استغلوا تشابه أسماء الأمكنة فنقلوا جغرافيا التوراة من الجزيرة العربية إلى أماكن أخرى، وزوّروا في الأحداث، ما وسعهم التزوير، لتسويغ قيام كيان استيطاني على أرضنا العربية، وسرقوا تراثنا العربي فأخفوه عن أعيننا، وادّعوا ما جاء فيه لأنفسهم، ونحن عنهم غافلون، يكفي ذلك، ولا ينبغي لنا أن نصدّق أن ألفاظ العربية بلهجاتها ضاقت على القرآن، فاستعار ألفاظاً غير عربية ليخاطب بها العرب، أو أن نصدّق أن لهجات العربية القديمة لغات ذات هويات أخرى، تكلّمتها شعوب أخرى، أو أنّ أسماء أنبيائنا – عليهم السلام – ومدننا، ومناطقنا ليست عربية، فنكون عوناً لهم – من غير أن نعرف – على طمس حضارتنا القديمة التي أسسّت لعالم متحضر، وعلى طمس هويتنا العربية القديمة التي تمنح هويتنا العربية المعاصرة أصالتها ومصداقيتها.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار