العدد : 9547
الثلاثاء 10 آذار 2020
اللوحة الفنية جسر تواصل بين الفنان والمتلقي ورسالة للآخرين، وليس هناك وجه يشبه الآخر وهو من ضمن اختلافات البشر فيما بينهم، وحضارة الوجه مستمرة منذ آلاف السنين لها جذورها في اليمن والبتراء وحوران وتدمر وإيبلا وبلاد الرافدين من رسم صور الآلهة في المعابد التي ما تزال شاخصة حتى الآن.
البورتريه عالم فني مستقل يهابه الكثير من الفنانين كونه ليس مجرد رسم صورة شخصية كما هي بل هو فكرة غايتها إظهار الملامح المليئة بالأحاسيس والمشاعر التي تجذب المشاهد والناظر إلى الرؤية والتحديق والتأمل، وهو فنّ التقاط صورة للوجه الشخصي وقراءته تشكيلياً برؤى بصرية وبإيحاءات فيزيولوجية ونفسية بأمداء إبداعية واسعة.
أغلب الفنانين رسموا الوجوه وتناولوا الحالة نفسها، لكنها شكّلت لهم خيارات متنوعة كثيرة وتحايلوا على الملامح الشخصية للوصول إلى روحها وإجراء عشرات الإسقاطات عليها فالوجوه مثل الأبواب أحياناً تكون مزخرفة من الخارج، بينما تكون مهترئة من الداخل بدون طلاء، فلكل وجه حالاته والإنسان يحسن إخفاء ملامحه الخارجية على الرغم من العتمة القابعة داخله، وهناك من يظن أن للوجه صورة واحدة هي الصورة التي خلق وآتى بها إلى الوجود، لكنها تتعدد بين الولادة والموت وفق رأي أدونيس لدرجة تبدو عند الشيخوخة نقيضاً لهيئتها عند الولادة والطفولة والشّباب وكأنها لوجه آخر.
الوجه حالة تعبيرية متعددة لها عيونها التي ترى من خلالها وهي حصيلة همومنا التي تنعكس فيها ومن خلالها في العمل الفني، والوجه نصّ تعبيري يعتمد على التفاصيل الصغيرة للوجه والوجوه المرسومة هي لبشر تعكس بؤسهم وعذاباتهم وحتى الوجوه المتفائلة تعكس الحزن العميق الذي يتجلى به الإبداع الفني كحالة الإنسان العربي الحديث الذي يعكس وجهة تاريخ من المرارة والخذلان والانكسارات.
شكل الوجه لا نهائي متغير باستمرار غير محدد البداية والنهاية، وحسب رأي أدونيس هو (سائل متحرك) وليس عضواً واحداً في جسد الإنسان بل له العديد من الاستطالات والمفردات (الجبهة، العيون، الخدود، الأنف، الشارب، الذقن) وقد شكلت إغواءً وهاجساً للكثير من الفنانين التشكيليين على مختلف اتجاهاتهم الفنية (نحت، تصوير، فوتوغراف، كاريكاتور) الذين قرؤوا الوجوه القاسية والغاضبة والمأساوية والمتجهمة برؤى بصرية، ونادراً ما نجا فنان من طغيان هذه الغواية في تقديم الوجوه بشكل غرائبي وعجائبي وحتى الوحشية والمسخة للدخول إلى أعماق الإنسان الشرير الذي انتفى الخير داخله، وكذلك استخدام الألوان الفرحة للتعبير عن الإنسان الإيجابي الطيب، وغالباً ما يكون الوجه هو البنية المحورية للعمل الفني وقد شكل وجه أدونيس إغواءً لافتاً للعديد من الفنانين التشكيليين السوريين وأبرز ما يشد في الوجه هو العيون لأنها تعكس شخصية الإنسان ومشاعره وطبيعته حتى أن الكثير من العلوم اهتمت بالعيون كعلم الفراسة وعلم النفس وعلم التجميل باعتبارها مرآة القلوب والنفوس وقد اعتبرها الشعراء نوافذ الروح، بينما عدها الأطباء نوافذ إلى الجسد حيث يستعملها الطب للكشف والوصول إلى أكثر من 3000 حالة صحية وطبية مختلفة.
الوجه فصاحة وإفصاح وبلاغة وبيان رغم صمته وعدم قدرته على الكلام، وليس ماهية ثابتة بل هو علاقة بينه وبين الجسد والزمان والضوء والنظر وبين الإنسان والآخر وقد شكلت هذه العلاقة والأسئلة هاجساً لقراءة الوجوه والغوص في تفاصيلها وإضاءة الكهف الداخلي للشخصية، حيث يكون الوجه بوابة لدخولها والتعبير عن حالاتها الداخلية، وهناك من أخذ قباحة الوجوه كحالة جمالية فنية نوّع عليها عشرات المواضيع التشكيلية، فهناك وجوه بعيون فارغة أقرب إلى القناع في أعلى الرأس وبما يشبه القرنين وهناك الأنف الثخين النازل بينهما باتجاه شفاه ممتلئة حتى نحار أهي وجوه أم أقنعة؟
وهناك الشفاه المكتنزة التي لا تنطق سوى الصمت، والعيون المطفأة الفارغة التي لا ترى شيئاً، وأحياناً يكون الوجه الحقيقي هو القناع المزيف ومن الصعوبة بمكان الدخول إلى حققته وخباياه وتعابير مشوهة للوجه وتوقعات بالهلوسة والهذيان تنذر بالهلع والويل، فمن يستطع امتلاك مفاتيح الوجوه؟
بعض الفنانين تنبأ بالأحداث المأساوية الكبرى في القرن العشرين وتصوروا عالماً أثقلته الحروب والأهوال والرعب وأبدعوا في اكتشاف الجنون وربطوا الهلع باللعبة الوجودية بين الإنسان والموت مثل الفنان كاظم خليل صاحب الشعور والتصورات الغربية والذي قرأ في الوجوه الإحساس المأساوي الذي يدفع إلى الهاوية، والفنانون السوريون يقدمون الأساليب المبتكرة في الإبداع دائماً بمنطق تعبيري ومساحات رؤيوية ولونية واسعة ويعملون بجد وصمت للوصول إلى الإنجاز الذي يريدونه، ومنهم من تمرد على الريشة والألوان واستعان بالخيوط والمسامير لرسم بورتريه وتحويلها إلى لوحة فنية متكاملة.
نعمان إبراهيم حميشة