العدد : 9547
الثلاثاء 10 آذار 2020
يرحل إلى نفسه كلّما اهتزّ مؤشّر المتطلبات اليوميّة أو أظلمت جيوبه من الإنفاق، ولا يحدث هذا بين يومٍ وآخر، بل ما بين شروق الشمس وانتصافها ومغيبها، كازدحام السير حول شارةٍ ضوئيةٍ أخذت غفوتها.
هذا الرحيل داخل النفس يكون بالتفاؤل تارةً، أو بزيارة صديق تارةٍ أخرى.
الأيّام الأخيرة التي يعيشها، تركت التفاؤل في سفر دائمٍ، كالغيوم الصيفية البيضاء، أمّا زيارة الأصدقاء فهي بدورها تتلاشى وتصير منسيّة، فهؤلاء الأصدقاء تبدّلت أحوالهم، وانتقلوا إلى مستوى جديدٍ لا يليق بصداقته التي اعتلاها الصدأ.
وأخيراً لم يجد أمامه سوى مقعدٍ خشبيّ في حديقةٍ يعوّد فيها نفسه على القناعة والبساطة، وقبول كل الأشياء على أنّها ملوّنة كالرّبيع. الكلُّ عنده سواء، والكلُّ يبحث عن حاجته، فالرغيف كالقصر.
أيّام تمرّ، والمقعد الخشبي يسافر به كرحلة مشوْقةٍ تنقله بين الوجوه العابرة التي تأتي وتغادر، أمّا استمرار وقع الخطوات على اختلافها، فيذكّره دائماً بعقارب الساعة التي تشير إلى استمرار الحياة.
هذا اليوم لم يكن كغيره، فالمقعد الخشبيّ خاوٍ، وظننت بأنّه قد انضمّ إلى (كل نفسٍ ذائقة الموت) لكنني وجدته مصادفةً في وسط مقبرةٍ، ودار بيننا حديثٌ مطوّلٌ انتهى إلى أن من يريد الرحيل، فليرحل بصمتٍ، وأن يلتقي بمن يجيدون ذلك الصمت، فالحياة قليلها أفضل من كثيرها، كالطبيعة التي يغرقها الفيضان إذا زادت حاجتها.
أليس البشر غارقين في فيضانٍ دائمٍ، وهم لا يدركون؟
إن الحياة بين الموتى أرحم من الموت بين البشر.
سمير عوض