نشيد على أبــــــواب أوروك…

العدد 9542
الثلاثاء 3 آذار2020

 

 

أعادتني الذكرى إلى باب الحديقة التي تركتها منذ بابل معلقة على أصابع من دم وصراخ والسياب ذاك الذي نزف حتى الموت مطراً وأغنيات، ظل يصرخ حتى امتزج صوته مع الصمت الطويل، لعل هذا الصمت المسجى يفيق فيَّ فجراً يعربياً أخضر، فيعلو النشيد وتزهو الأغنيات.

أوروك.. أيتها الجميلة الطالعة على ضفة النهر، مثل عاشقة على حافة الليل المطلة مثل شجرة نخيل على معبد (إينانا) هذا هو عيد دموعك.
أوروك.. ذات شمس انتصار ودقيقة صمت دهرية، جئت من مملكة الندى، معفر وجهك باليأس والدهشة والتساؤل رقصت حافية القدمين فوق حقول النار، وأنت تحدقين كالبلهاء في المرآة، تجدلين خصلات شعرك قصائد من حنين لدجلة العاشق وجهك على مر الأزمان، وتنثرين في أقبية الروح كلمات شوق للفرات الأخضر.
أوروك.. ألف أسطورة تحكى، النخيل يتهامس تحسراً هذا (أنكي) إله الينابيع واقفاً يراقب دمار بلاده ومن بين أصابعه تولد حكايا المحبة، وتعلو في سماء البلاد أغاني الحرية، وبهدوء يزرع وردة الحياة على مشارف المعبد.
(إينانا) أرسلت سلامها أقواس نصر، سلام الوداع الأخير للضمائر الحية، تبكي معبدها، زينت خصرها بالنرجس والزنبق، غطت رأسها بشعر مستعار، واعتمرت التاج، طوقت إصبعها بخاتم من ذهب، زينت صدرها بقلادة خضراء من تراب البلاد.
جلجامش… ذلك القابض على نبتة الخلود بعد عراك طويل ومرير، وفجأة شمّ الثعبان رائحة النبتة، خرج من الماء وأخذ النبتة.
جلس جلجامش يصغي بصمت إلى دوي القتل، وراح يبكي الليل الذي أرخى سدوله على أكوام الجماجم، وهام في سراب الأوطان، يبكي حظه، أقسم ألا يعود، وراح يبحث عن الخلود عن الخلاص وسط النار الموقدة سمع أنينه مياه النهرين، رقص حتى الجنون على ألحان قيثارة الحب والحرب، وبكى، أجل بكى ضياع الأوطان.
سافر بعيداً من الشواطئ وعندما أمسك عشبة الحياة صاح بأعلى صوته، أنا من يعطي الخلاص، غافلته الأفعى المختبئة في صدر الغزاة، التجأ إلى الصحراء، يئس من صهيل الصمت المترامي من الماء إلى الماء..
لفت وجهه اليائس ريح باردة، وخارت قواه، (جلجامش) يسقط أرضاً حيث في أوروك رعاة مدججون برائحة الموت والدمار..
كل ما كان يتخيله (جلجامش) من سموات وأقمار من جبال خضراء وأنهار فياضة يسقط في لحظة وجع قاتلة.. أنكيدو يسخر منه.. يصرخ بأعلى صوته.. الساقطون كثر يا جلجامش..
أوروك… أيتها الجميلة المتعبة القتيلة، القتيلة خلف أسوار الكلام وتحت صرير الجنازير وهدير الموت المعلب باسم الحرية.
جلجامش يخيط دموع الهوى أغانيَ للقادمين من خلف متاريس الصمود، فتح أبواب المرافئ وأطلق في سماواتها صفارات الإنذار.
قال: أي (إينانا) هلم نلم شتات الواقفين العارفين الصامتين على موت خارطة البلاد هناك خلف سياج الحدود، نوقظ في أعينهم ضوء النهار والخارجون من صباحات البلاد المشتعلة عشقاً إلى زنابق عينيك.
أوروك.. ها هي دموع عشاقك على الدروب القصية، عصية على الجفاف ما دام الرعاة ينامون باسترخاء مطمئن في أسرتك، يطقطقون أصابعهم يهزون خصورهم المتخمة بكل الأنواع، والأرض لا ماء فيها ولا عشباً، والنهر الذي على طول قامته واقفاً يصلي، يراقب بصمت الزاهد العارف، قامات النخيل وهي تنحني، يتأفف من رائحة البارود القادم من خلف البحار التي تلف بسوادها خصر البلاد، والبلاد الجريحة تزين جبينها بشال أحمر، وتمضي في وسط الدخان، تلم عن وجناة الأطفال الحيارى، مع التساؤل ولا من جواب، وتزرع على جبينهم ياسمين الأمل القادم.
أوروك.. الصبايا الحسان يخبئن بين أجفانهن لحظات الدهشة ومرايا وجوههن المكسرة، يطيرن تنانيرهن المذهبة كأجنحة الفراشات، يركضن للحلم، أحلامهن يابسة، ميتة.
هل من أمل يا أوروك… معذرة إن جلست أبكي زمن الموصل والكوفة والعمامة
ما زلت هنا من أيام عكاظ، من أيام جلجامش وعشتار والخضراء وزرقاء اليمامة.
أنشد الشعر، والسيف ما زالت بقيته بيدي، أخفيه بين ثنايا الجرح، أغسله في ملح الشطآن كي لا يدركه الصدأ، الآن كيف أضمد جراحي، وجراحي مفتوحة على الريح.، وعلى الصحراء، على الصمت الرهيب على طول ليلنا..
أماه.. ما عاد الدمع يعيد وجه الأحباب، ومرة أخرى من قهر وحدته مات (السياب).
أماه… أبكي فوق ذراعيك الطيبتين الرائعتين الداميتين، وصوتك من بين الأنقاض، يطلع كالتفاح كالموج، كالريح، كالجسد المستباح: لا تبكي يا ولدي، لا تحزن، أنزل كفيك عن وجهك، لا تخجل مني.
أماه.. كيف لا أبكي وقد اجتمع على دفني الغرباء، وأخي من قهره مات، هو الآخر على ضفة النهر، وماذا أفعل.. أدفنه في الرمل.. أم أرميه في ماء النهر..
هل من خلاص يا أوروك… لا زال الورد على السياج أخضر… لا زال هناك متسع من الوقت، الآن تنامين عارية في مجمرة النار، الهواء بارد، والقراصنة قادمون في وضح النهار، والحراس نيام.
ضيعتك الأزمان يا أوروك.. ضيعتنا المناسف المخملية وهزّ الخصور، تلك الأزمان التي كتبناها دهراً، ثم دهر على جذوع أشجار النخيل والصفصاف.
رحماك يا زمن العرب.. أناديك لأنحني إليك مثل طفل يبحث عن لعبته بين الأنقاض؟

غازي زربا

تصفح المزيد..
آخر الأخبار