العدد 9540
الأحد ا آذار 2020
قال أرسطو يوماً: (إن لدى الناس منذ الطفولة غريزة التشخيص ومن هذه الناحية يختلف الإنسان عن الحيوانات الأخرى في أنه أكثر قدرة على المحاكاة وأنه يتعلم دروسه عن طريق تشخيص الأشياء ثم تبقى المتعة التي يجدها الناس دائماً بالتشخيص.. وإن للإنسان غريزة التمثيل منذ الصغر… إن المتعة واللذة اللتان نحصل عليهما من هذه العملية هي من تحول الحياة إلى مسرح..).
ولطالما كان المسرح تجسيداً للأفكار وهما معاً من أشد الوسائل فاعلية في التثقيف والتنوير، من هنا جاءت أهميته ودوره في تثقيف الشعوب وتوجيهها وإمتاعها، لكن إلى أي حدّ يجذب هذا المسرح جمهوره؟ وهل الاتهامات له بأنه نخبوي صحيحة؟ نشهد بين الفينة والأخرى إقبالاً جماهيرياً ـ إلى حدّ ماـ على أحد عروض المسرح، تحت ظروف استثنائية تلعبها الحملات الترويجية لهذا العرض، وربما تتحكم به العلاقات الشخصية وسواها.. أو الأسماء الكبيرة واللامعة الصانعة له، لكن الأكثر رواجاً هو حالة العزوف عنه ومجافاته من قبل الكثيرين حتى من أهل داره ومثقّفيه وو..وهنا تبرز أسباب عدة يرجعها بعض النقاد إلى المسرح ذاته، وابتعاده عن واقع الحياة، وتناوله مواضيع خارج السرب اليومي للناس، وبالتالي لا يجدون به مرآةً تعكس تطلعاتهم وآمالهم وطموحاتهم. بينما يرى ناقد آخر أن مهمة المسرح الأساسية أن يعكس توجهات الشارع المحلّي قبل العربي، ويجسد همومه ومشكلاته بطريقة جدّية لا هزلية، كان اعتاد عليها قبل نحو عشرين عاماً وأكثر، حينما كانت صالات العرض تغصّ بالجمهور المتعطش للضحك، ربما من شدة الألم الذي كان يحيق به من كل حدب وصوب، أو ربما شعوره بأن ما يقدم له في وجبات العرض يعكس مرارة حياته وسخرية القدر المحيط بخطواته، ولربما هي فسحة الأمل الوحيدة التي جعلته يتنفس ويضحك بعيداً عن مهازل الواقع وضغوطات الحياة. ويرى نقّاد آخرون أن أزمة الثقة بين المسرح وجمهوره تزداد اتساعاً، والهوة بين الآمال والواقع الموجود كبيرة، لا تردمها مسرحية خجولة هنا، ولا عرض هناك.. ويتساءل كثيرون أين المسرح الجوال اليوم؟ ولمَ اختفى من المهرجانات والاحتفاليات المسرحية الكبرى؟ وهل انتهت صلاحيته، أم أن رسالته انتهت وأعطاها لمسرح الصالات؟. ويذهب البعض إلى أن المشكلة في العرض ذاته والقائمين عليه، لناحية النصوص الضعيفة، أو الممثلين من ذوي الوجوه الشابة أو المغمورة، أو الإخراج وما يتبعه من عوامل فنية كالديكور والمؤثرات الصوتية والأزياء…وغير ذلك من أسباب تشكل بمجملها حلقات متّصلة تدفع الناس إلى العزوف عن المسرح وصالات العرض. بينما يرى آخر أن الظروف المعيشية هي من تتحكم في جمهور اليوم، وأحد الأسباب الرئيسة لعزوفه عنه، فثمن بطاقة العرض أصبح لزاماً عليه صرفه في تلبية احتياجاته العائلية والشخصية، وأولويات الحياة اليومية تفرض عليه ذلك، فكيف له أن يُشبع نهمه الثقافي والمسرحيّ، ومعدته وأبناؤه خاوية؟؟ لعلّنا اليوم أحوج ما نكون إلى مسرح بسيط خالٍ من التكلّف، يحاكي الواقع اليومي، ويعكس هموم الناس ومشاكلهم اليومية داخل جدران منازلهم وخارجها، فيعود نجمه إلى السطوع لا الأفول، وهذا بالتأكيد يتطلب انتعاشاً وازدهاراً في غير مجال، كما يحتاج دعماً كبيراً سواء مادياً أو إعلامياً أو إعلانياً، ولابد من التوجه إلى دعم القطاع العامّ ورفده بالكوادر المؤهلة، وتسليط الضوء على أي نشاط يوحي بعودة المسرح إلى أهله، لا أن يقتصر الدعم على مسرح القطاع الخاص وحسب. وبالتأكيد فإن شدّ الجمهور إلى مدرّجات المسارح أصبح اليوم صعباً وشبه مستحيل في ظلّ التطور التكنولوجي الهائل والانتشار الكبير لوسائل ومنصات التواصل الاجتماعي التي أرخت بظلالها وأسهمت في تحييد الجمهور وفصله عن مسرحه، وحتى عن محيطه بشكل عام، وهنا لابدّ من استغلال هذه المواقع في الترويج المسرحي، وتوظيفها في استعادة ألقه وحضوره. أسئلة كثيرة تراود عشاق المسرح، ممن تعانق وتتعلق رغباتهم ببصيص أمل بعودة المسرح الجادّ إلى جادّة الحضور والتميز، ولابد من تحويل أزمته وتسخيرها في إنتاج جديد، فمسرح الأزمات في أوربا كان له حضوره يوماً ما، فلم لا نصنع من الألم والحزن مسرحاً يضجّ بالحياة، ويعد بغدٍ مسرحي متميز يخرج الجمهور إلى صالات العرض، وينسيه بعضاً من همومه وصعوبات الحياة حوله.
ريم جبيلي