العدد: 9535
الأحد:23-2-2020
تأخّر في العودة إلى البيت، هو رمح غضٌّ، بدت على الأب ملامح الضيق والانزعاج، انحنى كقوس قزح على يد أبيه طالباً رضاه، طبع الأب قبلة ضياء على جبين ابنه الشاب، بعد يومين انتهت إجازة الولد، وبعد يومين آخرين يعلن الجيش العربي السوري تحرير حلب وريفها بالكامل . . ومن العميق جداً تعصف الروح، وتعجز الريح عن حمل الخبر: استشهد زهير . . أهل حلب في الشوارع يغنون النصر والشهيد . .
كم من دم طاهر زرعناه في لجّة الأرض والضمير، ألا ترى كيف أصبح الوطن شقائق نعمان؟
اخلع نعلك أنّى سرتَ، فما من حبة تراب في سورية إلا وأخذت حصّتها من مهر الدم، مباركة دروبكِ يا بلدي، وتلك الأرحام التي ما حبلت إلا مجداً، فأنجبت أباةً يروّضون الصعاب، ويكتبون بفوهة بندقية مؤمنة تاريخاً ستسجد له البشرية، فهم المنتصرون بأمر الله وإذنه، وهم الحارسون ضوء الشمس من غدوها إلى المغيب، تصلّي عليهم السماء . .
الكهرباء أصبحت (3 بـ 3)، والغاز إلى انفراج . . . لو نحسن قراءة التحوّلات جيداً، لتبرّعنا بنصف خبزنا على الأقل لذوي أولئك الأبطال الشهداء منهم أو الأحياء، ولوقفنا قرب مداخل بيوتهم، نحرس خطواتهم برمش العين، فأنت ما زال ابنك يرتمي في حضنك متى تشاء، وهذا الطفل الذي يمضي إلى مدرسته كان قد سأل أمه قبل الخروج: متى سيعود بابا؟
***
اعتادت أن تنام كالقطة في حضن أبيها، حتى بعد أن أصبحت صبيّة يشغلها العشق وتأخذها تفاصيل الجامعة، وكانت كلما عزّ عليها النوم أو سهّدها القلق تتمنى على أبيها أن يضمّها إلى جوار قلبه، فتستسلم للسكينة والهدوء، وتغطّ في نوم عميق . . .
استشهد أبوها (فبكت دمعتين ووردة)، ولم تنزوِ في ثياب الحداد بناء على وصيّة أبيها واحتراماً لشهادته . .
ما زال القلق يداعب روح هذه القطة الجميلة، فتهرع إلى صورة أبيها، تضمّها إلى جوار قلبها، تحادثه، وتُسعد بحديثه الآتي من فوق . .
على الأم عند كلّ مساء أن تتفقّد ابنتها وتغطيها، وتأخذ صورة أبيها من حضنها . . . فقد جاء دورها لتبكي (دمعتين ووردة وعلماً).
***
أطلُّ من نافذتي، فأرى قمراً يسرح في البراري، أصوّب نحوه كلّ بلاغتي فيمضي، ويمضي غير آبهٍ بشلّال غزلٍ أغرق النافذة وما حولها . .
أيّ تيهٍ تعيش فيه أيّها (المختال)، وأيّ قسوة تدفعك لـ (تطنيش) العاشقين، ألا تخاف أن تنشف خوابي الوجد بك، وترحل القافيات إلى قمر آخر؟
التفتَ كظبيّ فاجأه ذئبٌ، قاسَ طولي بنظراته، وتأبّط نرجساً برياً وصعد تلك التلال البعيدة.
في اليوم التالي، سلكتُ درب القمر، تعثّرت بزحمة النرجس، وعند أول مدرج زهر في ذلك الجبل قرأت: مرّ من هنا قمرٌ، إنّه يقرؤكِ السلام، وهناك عند خاصرتي اليسرى قدح مسك، هو لكِ . . من هنا الطريق إلى إدلب يا حبيبتي.
***
نحسبها (زقرقة فرح)، وننسى أنّه ربما يبكي مثلنا . . هو أيضاً يعاني، يفارق، وربما يتذكّر، وإلا كيف يعود إلى ذات الغصن كلّ يوم؟
على مفرش الوجد يرتّل (دوريٌّ) حنينه، ربما لا يسمح له عمره القصير مزيداً من الانتظار مثلنا، لذلك يجوب مسافات طويلة، يبحث عن أنثى شاركها الرقاد على بيض عشّيهما بعد أن نسجاه قشّةً قشّةً . .
اليوم، أضاع هذا الدوري أنثاه وصغاره، أتراها الحرب شتّت شملهم أيضاً، نتساءل نحن بني البشر: كيف تميّز الطيور من نفس النوع بعضها بعضاً وهي المتشابهة كلياً؟
يضحك (الدوري)، ويلقي ذات السؤال علينا . . هبّت ريحٌ قويّة، انتقل الدوري من غصن الشجرة إلى سطح البيت الذي لا تحرّكه ريح، ونحن نتقاتل على (جرّة غاز)!
***
بكت بحرقة لأن فنجاناً له مكانة مجهولة بالنسبة لمن حولها انكسر . . لملمت بقاياه، وحاولت إخفاء دمعة حارقة كرجت على خدّها . . .
قالت لها أمّها: لا تبكي، غداً يشتري لك أبوكِ أحسن منه، فردّت الصبيّة الجميلة: وهل يستطيع أن يعيد ما كان عليه من عطرٍ وذكريات؟
إذاً، أنتِ عاشقة، لماذا لم تخبريني، كيف تكتمين مثل هذا الأمر عنّي . . . وبدأت سلسلة من أسئلة لا تنتهي . .
رويدكِ أيتها الأم (الحنون)، فقد كنتِ مراهقةً مثلها، وكانت لك أشياؤك الجميلة، ساعديها على (تلصيق) ما يمكن جمعه من (فنجانها)، فمهما كبرت (البنوتة) سيبقى هذا الفنجان هو الأغلى في حياتها.
***
كنتُ أعبر تضاريس كفّيها مطهّراً روحي مما علق بها من أسى وتعب، قالت: حاذر يا ولدي، فقد تجرحك خشونة يدي . .
سألتُ أبي: كم وردة أهديتَ أمي خلال ثمانية عقود كانت فيها إلى جانبك؟
نظر الأب مدهوشاً من سؤال يداهمه بعد نحو قرن من حياته، لم يجب، (تنحنح)، فاتكأت أمي على كرسيّ بجانبها، ونهضت على دفعات متكاسلة وضعيفة، ومضت إلى (خابية الماء) في زاوية الغرفة، وأحضرت له كأس ماء، (تفضّل . . اشرب).
أفرغ والدي الماء في جوفه، حمد الله على نعمته، ولم يكترث بمن قدّمت له الماء . .
قالت له: هنيئاً، بالعافية . . لم يرد، عرفت حينها أنّه لم يهدِها أي وردة.
***
أم علي سيدة خمسينية، يعمل زوجها في نجارة البناء، والمردود هذه الأيام قليل جداً بسبب ارتفاع تكاليف البناء، وكما هي خلال ثلاثين سنة خلت على زواجهما ترفض أن يقتصر عمرها على دور (ست البيت)، اشترت بقرة، وسعت في مناكب الحياة، تؤمّن مستلزمات بيتها من جبن وقريشة وشنكليش وما يزيد عن هذه الحاجة تبيعه، وتؤكد أنها على الأقل تؤمّن (الخبزات)، وترفع كتفاً عن زوجها‘ إضافة إلى أنها تجفف النعناع والملوخية مستثمرة نصف دونم لديها بالشكل الأمثل، وعندما تأخذ البقرة للرعي تقطف (الزوفا) وتجففها وتبيعها . .
أم علي ومثيلاتها كنَّ جدار أمان في هذه الظروف الصعبة من خلال تدبيرهن وحسن قيادتهن للمنزل، ولا تنسى أن تدعو لولديها المقاتلين في حلب.
غـانــــم مـحــــمـد