طير تعرت جناحاه

العدد : 9532

الثلاثاء: 18 شباط 2020

 

الدنيا مدرسة كبيرة بل أكبر مدرسة, مهما ارتقيت فيها لن تحصل منها إلا على شهادة وفاة، تنفق ساعات عمرك على مدارجها وأنت راضياً.

في طفولته كان كنبتة قصب خضراء مورقة، ومع الزمن أخذت تجف حتى أصبحت سحنتها شاحبة ولفها اليباس بعد أن وضعت على نار الهم والمرض والعزلة وثقبها الزمن فأخذت لا تكف عن النواح كطفل تاه عن أمه ويروي قصته لمن يسمعه، فالناي خليل أهل الفراق، فهو كمن فارق حياته لانطوائه في داره التي بدت غريبة عليه بعد أن عجز عن الحركة، بل غدا كنوتة موسيقية لا يفك رموزها إلا هو.
في مقتبل العمر كان يشتهيه الموت كمن يشتهي زهرة, أما عند تقدمه بالعمر أصبح هو من يشتهي الموت، فالذاكرة تطارده حيثما حل وأينما سار، أحياناً يبتلع دموعه خوفاً من أن يراه أحد، فهو كطير تعرت جناحاه وغدا طيرانه على ساقيه وشدوه دموع الروح، وأخذ يردّد قولاً لفلاديمير ما يكوفسكي: حيثما سأموت، سأموت وأنا أغني.
لكن غناءه كحمم البراكين تتدفق من داخله، ويتذكر إنه كان مفرطاً بعزة النفس والآن يحمل مرارته وإنه كان كشجرة لإيقاف التصحر والآن لخط كتباً بالطباشير، كان مرتهناً لسطو المال الذي كان حبه له كابناً شرعياً وبقدر الثمالة، لكنه في هرمه كحجر ألقيت في بركة حياته فحركت همومه التي أغرقت أحلامه، بل كزهرة تساقطت أوراقها وفضحها العريّ.
ذكرياته تخلو من وميض نور يضيء عتمته، ولم ينس كم قطف من الزهور النارية التي حرقت يداه، فما نفع ما جنى وما يمتلك، ويحدث نفسها قائلاً:
ما أضعف الإنسان الذي لا يرفع من قيمة نفسه، وإنه يمكن للمرء أن يشتري بالمال لساحات شاسعة لكنه لن يستقر إلا بمساحة متر ونصف المتر، فالإنسان السعيد هو من: اخذ من رخائه إلى شدته ومن شبابه إلى هرمه، ومن دنياه إلى آخرته، لئلا تصيبه الحسرة بعد فوات الأوان ويوم لا ينفع الندم.

نديم طالب ديب

 

 

تصفح المزيد..
آخر الأخبار