ألوان الحرب في الفن التشكيلي السوري

العـــــدد 9506

الإثنــــين 13 كانون الثاني 2020

ألقت الحرب ظلالها الباردة والثقيلة على مختلف مناحي الحياة في بلدنا، فاصطبغ كل منحى منها بلون من ألوان الوجع والقهر وجهد المواطن السوري طوال الوقت ليمزج ألوانه ويرسم لوحة الأمل الخاصة به…
ترى كيف كان تأثير تلك الحرب على الفنان التشكيلي السوري؟ هل انغمس فيها فطغت روحها على أعماله أم هرب منها إلى خيال صنعه لنفسه؟
حول ألوان الحرب في الفن التشكيلي السوري حاورنا عدداً من التشكيليين السوريين فكان الآتي:
في بداية الأزمة توقف ابن الساحل الفنان محمد غانم عن الرسم مدة عام كامل، ولما عاد وجد شيئاً مختلفاً حيث يقول: معظم اللوحات التي أنجزتها بعد عودتي سيطرت عليها أفكار لم تكن تلح علي سابقاً كالموت والصلب والتيه، وعندما أراقب هذه اللوحات الآن أجد أن اللون البنفسجي غالب عليها وهو اللون الذي يرافق الاضطراب والقلق.
حاولت الاقتراب من تجسيد الكارثة ولكن كان الهروب هو الدافع الأقوى لقناعتي بأن ما حدث من تغيرات ومفاجآت وكوارث أكبر بكثير من أن يجسد ببساطة، وكل ما قدم من أعمال فنية تحاول تصوير الكارثة لم يكن يرقى إلى حالة الصدق والموضوعية بل كان يشابه إعلان موقف سياسي أو إنساني بسيط وساذج.
كنت أجنح في أعمالي دوماً نحو تجسيد فكرة الإنسان واللجوء إلى المرأة الأم التي أرى فيها الوطن الجامع، فاللجوء إليها يشعر بالطمأنينة كطفل فقد أمه وهو مصر على الارتباط والبحث عنها في مساحة لونية تشعر بالتيه والقلق وفقدان الاستقرار.
أما الفنانة فايزة الحلبي فتقول: لقد أثرت الحرب بشكل مباشر على جميع السوريين بشكل مباشر وخاصة الفنان السوري، فقد أثرت سلبياً من حيث لا يعلم على أسلوب تشكيل لوحته فأصبحت تدل على العنف والتشاؤم والحزن، والألوان القاتمة الحزينة قيدت الفنان بأفكاره وتقنياته حيث استخدم تقنيات جافة وخشنة وألوان متشابكة..
بالنسبة لي عبرت خلال هذه المرحلة عن شعور الأنثى من حيث حزنها وأفكارها وضياع الأمان والحب من حياتها، ضياع الحضن الدافئ والاحتواء حيث اعتمدت على نفسها ووحدتها ومع ذلك كانت قوية بألوانها الدافئة ومن جهة أخرى مفرحة متفائلة عبرت عنها بالعيون القوية الصامدة والنظرة الثاقبة المستعدة للانتصار والهجوم لمكافحة الدمار بالبناء وإعادة تكوين نفسها من جديد.
ولعل للفنان محمد جميل هدلة وجهة نظر مختلفة فهو وإن كان قد خاض حرب السلاح كجندي في جيش الوطن إلا أنه كان في عالم الفن شخصاً آخر:إن تجسيد أعمال فنية تشكيلية تحاكي الحرب هو خطأ فادح لا يجوز الاستمرار فيه، الفن الحقيقي يجب أن يبقى خيالاً جميلاً صافياً غير مشوه بالواقع القائم وإن بُني عليه،
الفنان يجب أن يحاكي الواقع بهدف السؤال والتحريض وخلق ثقافة البحث، حينئذ من خلال الفن يمكن تجسيد واقع أفضل يسعى نحو المثالية.. لا أحب الفكرة التي تقول: الفن مرآة أو انعكاس للواقع وللبيئة، فعندما يكون الواقع سلبياً علينا التمسك بالمثالية وجعلها منهجاً فكرياً وعملياً للوصول لواقع أفضل، ولأننا بشر فلا يمكن التجرد بالمطلق من الواقع، لذا علينا ضبط المشاعر، والتأثر يجب أن يكون في حدوده الدنيا فقط، وذلك احتراماً للتاريخ وللذكريات، لأنه في بعض الحالات النسيان خيانة كبرى وليس بهدف التكريس أو الاستغلال وأحياناً التجارة، الحرب هي جزء من الحياة، وربما تكون الجزء الأهم، لذا الأفضل أن نعكس الفن على الحياة وليس العكس، أن تكون حياتنا بالمجمل متأثرة بالفنون بمختلف أنواعها، شاركت بالحرب لمدة ثماني سنوات فأدركت ألا وجود لحروب أخلاقية منطقية أو رومنسية.. الوحشية كانت هي السلاح والذخيرة والسبيل الوحيد للنصر والاستمرار.. في الحرب لا وقت للألم وللتأمل، لكن في الفن يجب أن نأخذ الوقت الكافي للخروج بعمل فني حقيقي يتوارثه الزمن، أستوحي أفكاري من الواقع والتاريخ والأدب والدين والأساطير، اللوحة عبارة عن قصة قصيرة بلغة الألوان واختياري للموضوع لا يأتي نتيجة ردة فعل، ولا يجب أن يأتي الموضوع على حساب التفوق البصري، أحاول أن ألزم نفسي بأعلى معايير البراعة والاستمرار في التطلع إلى أفضل جودة بصرية ممكنة للوصول إلى الكمال والتميز الفني، علينا أن نكون صادقين فكرياً.

الفنانة لينا رزق التي دأبت مع مجموعة من زملائها على إضاءة شموع السلام من خلال جمعية فنية جالت بمعارضها العديد من المحافظات، تقول الفنانة: كان تأثير الحرب على الناس عامة والفنانين بشكل خاص تأثيراً متنوعاً، يعني لم يكن التأثير واحداً على الجميع، فمنهم من انعزل في بيته وانكفأ واكتفى بالمراقبة، ومنهم من جعل من الفن متنفساً يفرغ فيه ضغوطاته النفسية ليعبر عنها بأسلوبه وفنه، وكان لذلك تأثير قوي عليه من حيث المواضيع والأساليب المستخدمة فكانت كلها تظهر عليها الحزن والمعاناة السورية خلال فترة الأزمة.
ومنهم من اجتهد ليوثق هذه الحرب بلوحاته ومنحوتاته وصوره الفوتوغرافية وأعماله الغرافيكية، واختلف اسلوب التوثيق كل منهم بنكهته الخاصة، ولكن بعد ذهاب غمامة الحرب وأثقالها صارت الوجوه المرسومة في اللوحات تحكي قصصاً جديدة والحزن بدأ يتلاشى، والألوان بدأت تتغير لتبث فرحاً جديداً يظهر كما ينبعث طائر الفينيق من الرماد بعد احتراقه، ليشكل فناً حديثاً يعالج النفوس المتعبة ويحاول أن ينتشلها من الكآبة والحزن.
وللفن السوري في المغترب أوجاعه أيضاً فها هو الفنان السوري إبراهيم الحسون
يتحدث عن حالة عدم الاستقرار التي يعيشها وبأن المكان لديه أصبح مؤقتاً، يستطيع جمع ما حوله والانتقال بسرعة إلى مكان آخر، ويتابع قائلاً:
لقد بدأت هذه الحالة منذ قصف مرسمي بحلب وخسارتي كل شيء، فقد خسرت ذكرياتي وكل اللحظات الجميلة وهذه الذكريات لا تستبدل ولن تعوض ولا تعود، ولذلك أصبح التعامل مع مواد الرسم والوسط المحيط بي ليس كالماضي لأنني أصبحت أحمل معي القلق والخوف دائماً.
عندما انتشر الدمار في حلب لم أعد أجد احتياجاتي من مواد الرسم فقمت بتحضيرها يدويا واستخدمت القماش المحضر رغم عدم حبي له للرسم ولأني عشت كل هذا الدمار بدأت تتسلل أشكال الدمار وتمزق الإنسان إلى لوحتي، من الصعب وأنت تتعثر صباحاً بجثة إنسان مرمية على قارعة الطريق ألا تحدث شيئاً بداخلك، أو أن تعيش لحظة الرسم وأنت تضع لمسة الإبداع على سطح اللوحة وأنت محاط بصوت الطائرات والرصاص وكل هذا الدمار وأنت على يقين بأن أناس قد ماتوا وبيوت دمرت، هذه هي الخلفية التي كنت أرسم بها، بدل سماع موسيقى بيتهوفن أو باخ….
الموت والغد المجهول وكل هذا الدمار للإنسان قبل البناء، تسيد الأسود والرمادي بقوة كل أعمالي وإن ظهر لون آخر فحتما سوف يكون الأحمر (لون الدم)، فقد أصبحت كل الأشكال لدي ممزقة وعارية وكل شيء قبل هذا هو وهم وبعيد عن الحقيقة.
الموت هو السيد وكل الأديان والمعتقدات والأخلاق والمبادئ هي كذبة، الحقيقة لدي هو ذاك الطفل العاري والمشرد والمحروم من حق الحياة، القابع تحت خيمته الممزقة أو بدونها لا فرق، فقط العدم يحتويه، ولذلك حاولت في معارضي الأخيرة الإشارة إلى معاناة الطفولة كثيراً وعن مسؤوليتنا اتجاهها، معرض بعنوان (طفولة على الرصيف)، في لوحاتي أصبحت تساؤلات كثيرة تبحث عن إجابة إلى أين الطريق يمضي بنا، تساؤلات عن الربيع عن الإنسان، وهكذا نرى أنها لم تكن مجرد أيام صعبة مرت بل إنها ممرات وعرة اجتازها التشكيليون للعبور إلى ضفة أخرى بعدما تأثرت أفكارهم ورؤاهم وتقنياتهم فخرجوا لنا بأعمال لها صبغات مختلفة عن كل ما سبق.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار