الوحدة:4-8-2024
(إذا كنت مغتصباً في الأحوال كلها، فاستمتع)، لا أعرف كيف خطر له أن يقول ذلك عندما كنا نتحدث عن تورط المرء بأعمال أو مشاعر أو علاقات لاتشبهه أو لاترتقي إلى مستوى أحلامه…
حدثني عن فتاة يعرفها منغمسة في الإبداع من رأسها حتى أظافر قدميها، كماهي منغمسة في القهر… فسألها من أين تأتي بهذا الجمال كله في لوحاتها، ردت قائلة: إن كنت مغتصباً في الأحوال جميعها، فاستمتع.
وهي قررت أن تتأقلم مع ظروفها، وتتقبل خيباتها، وتتصالح مع ظلّامها لتتمكن من العيش، ثم ساق لي في أثناء حديثه حكاية أخرى.
ومابين حكاية وأخرى سألني: (من هو صاحب الظل الثقيل..؟
في البداية ظننته أنا..ثم مرة بعد أخرى وجدته يتشظى ليشبه أشخاصاً كثيرين أعرفهم، ابتسمت في نفسي لفكرة (المساس) ..كلماتك تمس جانباً ما في كل واحد منا، أنت تلامسين مواطن ضعفنا وجمالنا ووجعنا.. كأنك تسخرين منا جميعاً، من سذاجتنا وغرورنا).
ضحكت مستمتعة بما قاله صديقي في الجزء الأخير، محتارة فيما ذكره بداية، ففيما يتعلق بك ياصاحب الظل الثقيل، أجده محقاً إلى درجة كبيرة… أنتم الرجال تتقاطعون في نقاط كثيرة كالغرور والسذاجة والشرقية والذكورة.. وفي أننا لن نستغني عن وجودكم المرّ في حياتنا، لذا يمس كلامي كل رجل في جانب ما، كما يمس جرحاً ما لامرأة ما، لكن هل أنت وهم عشت به؟ أم أنك الحقيقة الوحيدة التي عرفتها؟ أم أنك ذلك الاغتصاب لروحي العاشقة للحرية؟
كيف للمرء أن يستمتع بالاغتصاب؟ كيف للروح أن تزهو وتحلق وهي حبيسة الذل والقهر؟
إنه يحدث… بالفعل ذلك كله يحدث، عندما تتأقلم مع ساعتين منفصلتين من وصل التيار الكهربائي في اليوم، وتبرمج نفسك على الاكتفاء، عندما تبتهج لنصف ساعة إضافية يتصدّق بها المسؤول عن التحكم بوصل التيار وبإعدادك لوجبة الطعام لأولادك، وموعد استقبالك لضيوفك في هذا الحر، وشربك للمياه الباردة، واستحمامك، واستخدامك للحاسوب لإعداد بحث، أو تأليف لكتاب، أو كل ما يرتبط بذلك وهو كثير.. بل الأكثر.
عندما أراك تسرق المياه من خزان جارك ليتمكن أولادك من استخدام الحمام على الأقل، عندما تتجنب مرورك برفقة أطفالك من أمام واجهة محلات الحلويات والمأكولات الشهية وأنت تضغط بقهر على وريقات قليلة في جيبك.
وعندما تسألك طفلتك الصغيرة في دكان ما عن اسم فاكهة لم تعرف طعمها يوماً، أو تشتري لابنك الرضيع الذي لم يكمل عامه الأول حليب بقر وتخلطه بالماء لعدم قدرتك على شراء علبة الحليب بعدما جف حليب والدته التي اختارت الصمت والكبت حتى لاتزداد خلافاتكما ومشاكلكما بسبب ضيق الحال.
أنت تغتصب كل يوم، ولكن هل أنت حقاً مستمتع حين تشعر أن لاطريقة للعيش الحلال، وماحولك يصرخ في وجهك أحمق.. مغفل… ضيعت فرصاً كثيرة لتحسين وضعك عندما لم ترضخ لجبروت مدرائك فحملت السلم بالعرض، ولم تساير التيار.
عزيزي ياصاحب الظل الثقيل…
لقد أعياني غياب ظلك أكثر مما تتخيل، فذلك الثقل الذي فيه، يضغط فوق مكامن الوجع، ويجعلني أتوهم الصحة والسعادة والتأقلم… وحين تغيب أشعر برغبة في التمرد حتى على ضيائي، أرغب في التصفير كما فعل عبد الحليم حافظ حين أوقف أغنية ( قارئة الفنجان) في إحدى حفلاته بعدما عكر انسجامه وذوبانه في الغناء صفير أحد الجمهور، شعر باغتصاب لحظة إبداعه، ثار وعبّر عن موقفه، على الأقل بالتصفير والتوقف عن الغناء للآخرين، وتسمية الأمور بمسمياتها.
عزيزي…
أنا لا أغني إلا لعينيك، توقف عن اغتصابك لروحي بكثرة الغياب، أنا أيضاً أعرف كيف أصفّر، وأصرخ، وأتمرد على ظلك حتى أخفيه من طرقات قلبي.
نور نديم عمران