الوحدة: ١٢-٤-٢٠٢٤
على الجسر المعلق بين نافذتين تعرّش مملكةُ الأيامِ بانتظار عاصفة مباغتة، تحوّلُ القلب المضمّخ بالحب إلى قصيدة من عطر و ضوء، ها أمدُّ جسر الحنين إلى أقصاه، فما بال قلبك لا يلتفت؟
و مالها حشائش روحك لا تتمايل على نسيم روحي؟
أيّها المتماوتُ الجميل يكفي شقاوةً، فرفقاً بقلبِ أخيك، انهض أيها المتكاسل حدّ الموت.
لقد جرت العادة على مدى سنوات و أعوام أن تكتب في زاويتك الأسبوعية (وقال البحر) في جريدة الوحدة بمواضيع عديدة، لكن على تعددها لم تكن يوماً لتبدأ إلا بالحب، ولم تكن لتنتهي إلا به من الحب بمفهومه الخاص بين رجل و امرأة، إلى الحب بمفهومه الإنساني الشامل، وما يمرّ بينهما من حبٍّ للجمال، والأدب و الحياة.
تعرف و أعرف يا صديقي أنك كتبت عشرات المقالات التي تتحدث عن رجال و نساءٍ لم يمروا مررواً عابراً في حياتنا، بل تركوا بصماتهم على صفحات أرواحنا و مضوا بعيداً لكنهم لم يغادرونا أبداً، نعم رحلوا بعد أن تركوا شيئاً من أرواحهم في العميق من وجداننا، وأخذوا من عميقه بعضاً من خفقات القلب و أمداء الروح
بدءاً من المتنبي مالئ الدنيا و شاغل الناس إلى شاعر العربية و فيلسوفها أبي العلاء المعري وصولاً إلى الشابي والسياب وبدوي الجبل ونديم محمد ونزار قباني و محمود درويش و ممدوح عدوان، ناهيك عن شخصيات عالمية أمثال: (لوركا، رفائيل ألبيرتي، ناظم حكمت، رسول حمزاتوف) و القائمة تطول.
لستُ هنا بصدد أسماء من كتبت عنهم فهم كثر، لكن ها أنا بعد غيابك القسري عن يومياتنا و بعد مجموعتين شعريتين، ومئات المقالات هنا و هناك، أجد نفسي أرتدي روحك و أمسك قلمك لأكتب عنك و لكن من أين أبدأ يا صديقي؟
هل أبدأ من طفولة بعيدة لكنها في توهج لا ينطفئ. هل أبدأ من جدول الضرب و أسراره إلى جداول الماء و حكاياها التي تمتد من الجسر إلى النهر
أم من جداول الحياة التي تبدأ من منحدرة من الجبال العالية و تصب في لجج النفس العميقة.
سريعاً ما أستدرك لماذا لا قصيدتك المعنونة باسم (الطفولة)،
والتي أهديتها لي ذات مجموعة شعرية دافئة حيث تقول:
“جاءتْ و من غسقِ الغياب و غافلتني..
لبستْ أساطيري، مراويلي، حكاياتي..
و قالتْ: أنْ تفرَّ إليَّ مني
– أرقيقةٌ؟
– كالحبُّ، و الأحلامِ و الشعر الشفيف
– أشفيفةٌ؟
– كالومضُ و الألحان و الموت الأليفِ
(هي ذي الطفولةُ هاجرت و تقمّصتني)
أيها الطفلُ الذي لم يعمِّر أكثر من خمسين عاماً إلّا قليلاً.
أكاشفك اليوم لأقول يا من كنت شغوفاً بإزعاج النواطير لا بعنب العرائش أو تين الكروم، و مصرّاً على إطلاق النار بعد انتهاء المعركة، و عاشقاً للدروب و ليست بغيتك الوصول، و أنت من خرج من رحم أمه ذات صرخة إلى هذه الدنيا و لم يتوقف صراخك إلا برحيلك القسري عنها.
أذكر أنني قلتُ لك ذات مساء، إنني أفهم هذه العناوين بطريقة تتواءم مع روحك الجامحة الحالمة.
ضحكتَ و قلتَ لي: كيف؟
أجبتُ: أنت تزعج النواطير لا رغبة بالإزعاج، بل لكي لا يتسلل النعاس و النوم إلى عيون النواطير، فيطمع اللصوص بأرزاق غيرهم.
وتتابعُ إطلاق النار بعد انتهاء المعركة لا تسليةً و لا ترفاً بل لكي ترسل رسالة إلى الأعداء مفادها لن تأخذوها على حين غرّة، فالسلاح في الكف و الأصبع على الزناد، و لا تريد أن تصل لأن الوصول نهاية، و المشي على الدوب و السعي للهدف حلم، و الناس يموتون بموت أحلامهم، وصرختك الأولى التي استقبلت بها هذا الكون كانت احتجاجاً فطرياً على ما يحمله هذا الكون.
و بعد أن عرفت الكون و ما به من ظلم تحولت صرختك إلى احتجاجٍ واعٍ لا يتوقف.
نظرتَ حينها إليَّ بعينين دامعتين ونهضتَ واقفاً، وقفتُ بدوري و بشعور عفويٍ ضممتني إلى صدرك معانقاً و أنت تقول: نعم يا أخي أنا هكذا تماماً.
لكن…..؟
في ذكراك أضع يدي على قلبي وإن كنتَ لا تزالُ فيه، و أسأل هل تمكنت عناكب الغياب من إطفاء ألق روحك؟؟
بالتأكيد لا تزال حاضراً بأدق تفاصيلك..
صحيح لم تكن أنا، ولم أكن أنت، لكن كنّا عينين في وجه واحد تنظران بالاتجاه نفسه و ترسمان أفق مستقبل لم تتحقق و لن يتحقق أبداً، لكن ألستَ القائل: السير إلى الحلم أجمل من الوصول إليه.
ها أنت و قد وصلت للضفة الأخرى للحياة، أما أنا لا زلت أسير و أعلمُ أنني سأصل ذات يوم.
أجد أنه من المفيد أن أخبرك أنه لم يحدث أي تغيير جوهري في حياتنا فالمعمورة الصغيرة لازالت تعجُ بالقسوة، كم كان من الممكن أن تكون الحياة أجمل بكثير مما هي عليه الآن، فقط لو….
سيكون هناك الكثير من الوقت لنتحدث عندما نلتقي
لكن وقد تعوّد كل منّا أن يُسمع الآخر جديده، فإليك جديدي.
الذي كتبته بعد افتراقنا المؤقت:
سريعاً… سننأى
و يخلو مكانك… يخلو مكاني
فنحنُ على معطفِ الكونِ قطرةُ ماءِ
قريباً تجفُّ..
فنمْ يا حبيبي..
بملء عيوني..
سأغمضُ عيني عليك و أغفو
كبرنا على الخوفِ يا صاحبي
فما عادَ في القلبِ خفقٌ وخوفُ
و لكنْ تمهل قليلاً..
كأنّ القوافي أسيراتُ عشق.. و إنّ الحروف عليك ترفّ.
محمود عزيز إسماعيل