الوحدة : 27-2-2024
ورد في تاريخ الشعر القديم مقارنات عدّة بين شعراء تقاطعوا فيما بينهم ببعض الصفات سواء الجسدية أو العقلية أو الفكرية أو الاجتماعية، وتشاركوا طبائع واتخذوا مواقف وضعتهم إما على طرفي اختلاف ونقيض، أو تشابه وتطابق، ومنهم الشاعران الكبيران اللذان اشتركا بصفة العمى لكنهما اختلفا في وصف المرأة، بشار بن بُرد وأبو العلاء المعرّي واللذان يُقال فيهما كل طريف وعجيب وجميل. وكانت المرأة هي القاسم المشترك بينهما، لكن صورتها اختلفت بينهما، فهما يقفان على طرفي نقيض.
فالمعري شاعر فذّ.. مفكر وفيلسوف وصاحب علم وأدب ومنهجية اجتماعية، فهو يتحدث عن المرأة في حالاتها الواقعية، من العقم وتعدد الزوجات وعمل المرأة.. لكنه يبخسها حقها في الغزل، ففي أغلب صوره الشعرية يبدو ناقماً لا محبّاً لها، ويظلمها في قصائده ومقاصده.. وكان إذا التفت إلى المرأة خاصةً عرف أنها الحياة مصغرة في ثوب من الجسد، وأنها خلاصة ما في الحياة من الغوايات التي يوصي بالحذر منها، والشرور التي يألم لها، فيرفضها رفضاً مضاعفاً ويخصها بذم غير مشارك، وله في اللزوميات أشعار كثيرة تنطق كلها بهذا الرأي في عبارات مختلفة، فهو إذا رفق فالمرأة ألعوبة ملهية:
وما الغواني الغوادي في ملاعبها
إلا خيالات وقت أشبهت لعبا
وإذا اشتد فالمرأة حية مؤذية:
وإنما الخود في مساربها
كربة السمّ في تسربها
وهي على كل حال آفة اللب وفتنة الحلم:
يفندن الحليم بغير لب
وهن وإن غلبن مفندات
بينما بشار بن بُرد العابث اللاهي ذهب وراء الغزل وأبدع في وصف صورة المرأة وجمالها سواء من الناحية الفنية أو من حيث الصورة والموسيقى والبنية الفنية واللغوية للقصيدة، لكنه كان ماجناً وعابثاً دون أن يخلو هذا العبث من جمالية اجتماعية تشدّنا إليها في كل أحوالها وألوانها.. نورد في الآتي شواهد في وصفه وغزله:
حَوراءُ إن نَظَرَت إلَيكَ سَقَت
كَ سَقَتكَ بِالعَينَينِ خَمرا
وَكَأَنَّ رَجعَ حَديثِها قِطَعُ
الرِياضِ كُسينَ زَهرا
وَكَأَنَّ تَحت لِسانِها
هاروتَ يَنفُثُ فيهِ سِحرا
وفي المقارنة بين الأعميين دأب الباحثون على مزج الطرافة والدعابة في استحضار شواهد شعرية تقصّ على الجمهور فروقاً واضحة بينهما، وكيف يراها ويتخيّلها كل منهما ببصيرته لا ببصره؟ بشار محبّ حدّ الجنون ومعجب حدّ الثمالة، بينما المعرّي ناقمٌ كارهٌ لا يطيق محياها!!.
ريم جبيلي