الوحدة – وداد إبراهيم
أسند ظهره على جدار قاعة الانتظار في مركز الطب النووي لمعالجة الأورام، وهو يترقب خروج زوجته من غرفة تسريب جرعة العلاج الكيماوي، في رأسه يستعيد رحلة العلاج منذ سنوات، حدث نفسه: أنا لم أخذلها، وأبذل كل طاقتي لمساعدتها ودعمها، فهي شريكة العمر، لكن المعاناة في تأمين الدواء وتكاليف العلاج تشكل تحدياً لإرادته، لسوء وضعه المادي، ليست حالة أبو حسن حالة فردية، بل هي معاناة المئات ممن يقصدون المركز للمعالجة، مع نقص الأدوية المجانية فيه، مما يضطرهم للشراء من صيدليات خاصة أو البحث عن طريقة ما لاستكمال العلاج، هذا إضافة إلى خروج أجهزة العلاج الشعاعي عن الخدمة منذ زمن، لا يزال الرهاب والتكتم من ذكر اسم مرض السرطان حاضراً بين الناس، فلا يُذكر صراحةً بل يقال (هداك المرض)، لما يسببه من معاناة ذات أبعاد مرضية واجتماعية ومادية وكل مريض هو حالة خاصة، فلنتساءل عن دور العائلة المحيطة بالمريض، والمجتمع المدني، ودور الدولة في رحلة العلاج؟
إرادة الحياة تتغلب على الاستسلام
الطفلة صباح من حلب، يتيمة الأب والأم، تربيها مع أختها زوجة عمها براءة، التي ترافقها في رحلة العلاج التي بدأت في حلب منذ خمس سنوات، ثم انتقلت للعلاج في مركز الأورام بمشفى اللاذقية منذ ثلاث سنوات، عمرها الآن 16 عاماً، بدأت بالعلاج الشعاعي ثم العلاج الكيماوي، ووضعها يتدهور، وتزامن توقيت الجرعة الأولى مع دخول جمعية “الإنسان” لمساعدة الأطفال بتأمين الجرعات، بدت براءة ممتنة للجمعية لتخفيف عبء مادي يثقل كاهلهم، مع إقامة تجاوزت الشهر في المركز.
أما أبو حسن، الذي أسند ظهره على جدار قاعة الانتظار وهو يرتقب خروج زوجته من غرفة تسريب الدواء الكيماوي في أوردة فقدت لونها الوردي بسبب الجرعات التي أضعفت جسدها ومناعتها، مترافقة مع سوء تغذية بسبب استنزاف كل ليرة في رحلة علاج كلفت المُلايين، هو غير موظف ويعيش من عمله اليومي ليسد رمق عائلة باعت قطعة أرض تملكها لتعزيز الأمل بشفاء أم حسن، ملامحه لم تعكس ذاك التفاؤل والإرادة لتأمين وشراء جرعة من دواء (كاربو) الأسبوع القادم، مؤكداً بلسان واثق: سيتم تأمينها بإذن الله، بسعر 330 ألف ليرة سورية أو 600 ألف، تبعاً لمصدرها الهندي أو الأوروبي، لأن الدواء مفقود بالمركز. خرجت أم حسن بطاقة إيجابية تعكس إرادة الحياة والشوق لأولاد، بينما ليليان لم تجرب أدوية المركز لعدم توفرها في بداية رحلة العلاج، لذلك اشترت الأدوية من صيدلية خاصة بمبلغ مليون ليرة سورية، وأجرت صورة طبقي محوري في مشفى خاص بمليون ليرة سورية، وحالياً ستشتري دواءً آخر بحوالي مليوني ليرة سورية، لأنها وجدت أن الأعراض الجانبية الناتجة عن الجرعة من خارج المشفى أخف وطأة على جسدها وحالتها،
بينمافي قسم المعالجة الشعاعية، لا تزال أم أحمد تعاني من مراجعة القسم منذ شهرين مع خروج جهاز الكوبالت من الخدمة، بعدما وصف لها الطبيب إجراء 15 جلسة أشعة خلال ثلاثة أسابيع، تأخذ جرعات ثم تتوقف لفترة، ولم تكمل علاجها بعد.
جمعية (الإنسان) .. يا بسمة الحزن من إدلب إلى اللاذقية
استقبل قسم الأطفال هذا العام 95 طفلاً، وتتراوح أعمارهم بين سنة و16 سنة، رافقتهم دموع الأمهات وصمود الآباء الذين يبذلون كل ما يملكون لمعالجتهم، و لكن مع بداية شهر آذار انطلق فريق جمعية (الإنسان) من إدلب بقيادة محمد بديع مصطفى لمساعدة الأطفال مرضى السرطان، ارتسمت مظاهر الشكر والامتنان في القسم على وجوه أهالي الأطفال والأطفال أنفسهم عند توزيع الهدايا والألعاب، قال محمد: انطلقت مبادرة جمعية الإنسان عن طريق طفل واحد لتأمين الدواء له، وكان بمثابة أيقونة، لتتوسع المبادرة التي بدأت منذ ثمانية أشهر بمعدل زيارتين لقسم الأطفال شهرياً لتغطية كل الأطفال الموجودين بالقسم، مضيفاً: نقدم ثمن الجرعات الكيماوية بمبلغ يتجاوز 40 مليون ليرة سورية، والجمعية تعتمد على تبرعات فردية من أهل الخير، ونحن مستمرون بالعمل، وإذا توفر فائض بالتبرعات من الممكن أن نساعد حالات محتاجة، ونتمنى أن نساعد أكبر عدد ممكن، لكننا نعمل وفق إمكانات متاحة والأولوية للأطفال، ونعلم أن الجرعة تؤثر على قوة الجسم والمناعة، ونجاح الجرعة مرتبط بقدر الاهتمام بالغذاء في المنزل للتعافي، نقدم الجرعات ،وحالياً موضوع التحاليل والصور قيد الدراسة، وسنفكر بتأمين سلل غذائية داعمة، الدعم والمساعدة الإنسانية بغض النظر عن أي توجه أو انتماء أو طائفة، إنها الإنسانية.
الكادر التمريضي.. جبار أمام حجم العمل وضغطه
خلال الجولة في المركز ولقاء مرضى ومرافقين، أجمعوا على تعامل الكادر التمريضي معهم بكل احترام ومسؤولية وإنسانية، مؤكدين أنهم “ملائكة الرحمة” مع ما يمتلكونه من خبرة ومهارة وصبر ومرونة أمام ضغط العمل.
وصلنا إلى مكتب رئيسة التمريض فاديا حمودي مع نهاية الدوام الصباحي، كانت تعد التقرير اليومي، قالت: الكادر الصحي هو خط الدفاع الثاني عن الوطن، وأوضحت: كادر الأطباء والفنيين والممرضات والمخبريين يعملون كخلية نحل لتقديم أفضل الخدمات لمرضى الأورام وفق الإمكانات المتاحة، مع توزيع العمل يوجد 120 ممرضة في مركز المعالجة الكيميائية والشعاعية بمشفى اللاذقية، يقمن بعمل جبار مع خبرة ومرونة واهتمام بمراعاة الحالة النفسية لمرضى الأورام، استقبلنا اليوم أكثر من 200 مريض موزعين على أقسام المركز، وهي: قسم الحقن السريع ويضم العيادات وقاعة انتظار وغرف تسريب الجرعات والمخبر الخاص بالأورام، وغرفة حل الأدوية الكيماوية، وفي الطوابق نستقبل المرضى الذين مدة التسريب عندهم نحو الساعتين إلى عدة أيام، وفقاً لبروتوكول العلاج الخاص بكل مريض، ننتقل إلى الطابق الأول ويضم قسم النساء وقسم الأطفال، وغرفة البزل، فيما الطابق الثاني يحتوي على قسم الرجال، وهناك قسم الاستشفاء لتحسين الحالة العامة، وحول واقع بيئة العمل للممرضات عالية المخاطر بالتعامل مع مواد كيميائية، بينت أن العمل يتوزع بين فتح أوردة ثم تسريب الجرعة.
وحل الادوية في غرفة زجاجية باستخدام كمامات وقفازات ذات نوعية خاصة، وشفاط للهواء لتلافي الاستنشاق أو التماس مع الدواء.
إدارة حكيمة للنهوض بالعمل الطبي
أمام ضغط العمل كشفت رئيسة التمريض فاديا عن وعود برفد مشفى اللاذقية بممرضات قد يصل عددهن إلى 500 ممرضة، ستكون حصة المركز منها 100 ممرضة، وأضافت موضحة: أن العمل يجري وفق نظام الدوام الصباحي بالإضافة إلى المناوبات، بنظام 40 ساعة عمل غير متواصلة، مع وجود ممرضات من خارج المحافظة، حيث يتم تأمين وسائل النقل لهن على الخطوط الخارجية والقرى، كما أفادت أن ممرضات المركز يحصلن على طبيعة عمل بنسبة 55%.
وبخصوص الاستجابة لطلبات المركز من إدارة المشفى، أشادت فاديا بالإدارة الحكيمة للمشفى متمثلة برئيسه الدكتور عبد الناصر رضوان، مشيرة إلى النقلة النوعية في تسهيل وتيسير العمل، والاهتمام والمتابعة عبر جولات ميدانية، والاستجابة لأي طلبات ضمن الإمكانات المتاحة.
بيئة عمل بمخاطر عالية للممرضات تتطلب توفر مستحقات
من جانبها، أكدت رئيسة شعبة الحقن السريع السيدة سناء حمدان ما سبق أن أوضحته رئيسة التمريض، بالتفصيل ، لافتة إلى أن العمل في الشعبة والتي تضم 11 ممرضة، يتم بروح الفريق الواحد وبما يمتلكنه من خبرة ومهارة ونشاط وحس إنساني مسؤول، مضيفة أن الشعبة تستقبل بين 30 إلى 60 مريضاً يومياً، ولكنها اشارت إلى عدم توفر لباس خاص للممرضات حالياً، خصوصاً في غرفة حل الأدوية الكيماوية، وإلى توقف صرف ما كان مخصصاً للممرضات من مواد كالحليب والبيض منذ سنة.
أجهزة خارج الخدمة رغم ضغط الطلب الكبير عليها
قسم العلاج الشعاعي في الطابق تحت الأرضي (صفر) مصمم باحترافية للتعامل مع تسرب الأشعة، وتضم الغرف المغلقة أجهزة متطورة كلفت مئات الملايين من الليرات لكن معظمها خارج الخدمة، باستثناء بعض الأجهزة وأهمها جهاز المسرع الخطي.
يعمل علي ياسين، فني أشعة، مع 30 من زملائه وفق نظام مناوبات على مدار الساعة تحت الضغط على جهاز المسرع الخطي، وقال علي: أي مريض يتعالج كيميائياً قد يتحول علاجه إلى علاج شعاعي حسب الخطة العلاجية وبروتوكول يضعه طبيب الأورام لكل مريض، نستقبل المريض لاستكمال العلاج الشعاعي حسب بروتوكول يضعه طبيب الأشعة، موضحاً: المسرع الخطي جهاز يعطي أكثر من طاقة، وأكثر من نوع أشعة، وهدفه يتنوع بين (تلطيفي، علاجي، وقائي)، ونستقبل يومياً ما بين 150-200 مريض، لكن الجهاز يعمل بكفاءة وفعالية إلى حد 80 مريضاً فقط، ونحن نستخدمه لمعالجة نحو 150 مريضاً يومياً، وهذا يعرضه لأعطال يومية بسبب ضغط العمل، ويتم استقبال المرضى القادمين من خارج المشفى والمناطق البعيدة من ست محافظات، من الساعة السابعة صباحاً حتى العاشرة ليلاً، ثم يخصص الوقت للمقيمين داخل المشفى حتى ساعات الصباح الأولى، والحل برأيه هو صيانة الأجهزة وإصلاحها وتوفير القطع من بلد المنشأ، بذلك يخف الضغط وتتحقق الراحة النفسية والمعالجة للمرضى دون تأخير، وحسن سير العمل للفنيين الذين يتقاضون بدل طبيعة عمل بنسبة 50%.
د. حسين: وعود بتلافي الخلل في نقص الأدوية وإعادة الأجهزة للخدمة
نقص الأدوية بنسبة 50%، وخروج أجهزة الطبقي المحوري والكوبالت والمسرع خطي والرنين المغناطيسي، وجهاز التنميط المناعي عن الخدمة، وعمل المخبر، وواقع الخدمات في مركز المعالجة الكيميائية والشعاعية في مشفى اللاذقية، محاور اللقاء مع معاون المدير العام للشؤون الطبية في مشفى اللاذقية الدكتور فراس حسين، وهو طبيب أورام.
بداية، أكد الدكتور حسين وجود نقص في الأدوية المطلوبة بنسبة 50% منذ أشهر، لافتاً إلى أن مشكلة تأمين الأدوية تشكل تحدياً وطنياً حقيقياً على مستوى سوريا وليست مرهونة بمشفى اللاذقية فقط، مشيراً إلى العمل منذ فترة للتنسيق بين وزارة التعليم العالي ووزارة الصحة على تأمينها بطرق عدة، وقال: نبدأ الآن بتأمينها عن طريق المناقصات وفق الشروط الفنية والقانونية، وأيضاً عن طريق استجرار الأدوية من خلال التعاون والتشاركية بين وزارتي التعليم العالي والصحة عبر التنسيق بين كل المراكز في الجمهورية العربية السورية لتبادل الأدوية الفائضة، والطريقة الثالثة تعتمد الشراء المباشر لأن أدوية الأورام لها ميزانية خاصة معتمدة من هيئة المشفى، عبر الشراء المباشر لبعض الأدوية وخصوصاً الإسعافية، ضمن التقيد بشروط قانونية للشراء المباشر بسقف 10 ملايين ليرة سورية، وتخضع لإعلان مناقصة.
ورداً على سؤال لماذا لا يتم رفع سقف الشراء؟ أوضح د. حسين أن هذا الموضوع يحتاج إلى إعادة نظر لرفع السقف ضمن الشروط القانونية، مما يعطي المشفى قدرة أكبر على تأمين الحاجة وسد النقص في الأدوية الورمية وغيرها، إضافة إلى منح استقلالية أكبر للإدارات بحيث تؤمن حاجتها بانتظار إتمام المناقصات لتأمين كامل الأدوية والمستلزمات الطبية، وهذا يتطلب إجراءات فنية ومالية وقانونية وقد تأخذ وقتاً طويلاً، إن رفع سقف شراء الأدوية الإسعافية حصراً يساهم في أن تحقق المناقصات الشفافية وعروضاً أكثر.
وفيما يخص خروج أجهزة معالجة شعاعية عن الخدمة، أشار د. حسين إلى أن جهاز المسرع الخطي الجديد تم إصلاحه بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي منذ خمسة أشهر من الشركة الأساسية (إيماتك)، لكن المسرع الخطي الآخر وجهاز الكوبالت والطبقي المحوري خارج الخدمة منذ أكثر من سنة، والمشكلة في الإصلاح تعود للعقوبات السابقة والوكلاء، حالياً تم التنسيق مع معاوني الوزراء على أن يكون من الأولويات البدء بمناقصات إصلاح الأجهزة، مع وعود من الآن حتى نهاية العام بتلافي هذا الخلل بنسبة 80%، وبانتظار موافقة ومصادقة الوزارة على المناقصات.
وفيما يخص التحاليل المخبرية، وخصوصاً التي ترسل إلى دمشق وترهق المرضى مادياً، قال: نعمل على أن تكون المؤسسة رائدة، لدينا مخبر، والدراسات الجينية أساسية في الأورام، مضى سنوات على تأمين المستلزمات المخبرية والأجهزة الضرورية، وحالياً يتم التنسيق مع اللجنة الوطنية للأورام على مستوى الوزارة التي زارت المركز، مضيفاً: لدينا جهاز اسمه (التنميط المناعي) يكلف المرضى الملايين، أو إجراء الطفرات الوراثية، في المؤسسة موجود جهازين منذ زمن، ولم يتم العمل عليهما بسبب غياب المواد المخبرية الضرورية باهظة الثمن، ونحن نعمل على التنسيق لإعادة تفعيل هذه الأجهزة وتأمين الكوادر وتدريبها لتعود إلى العمل في الشهور القادمة.
ولفت د. حسين إلى ضرورة تسهيل المعاملات الإدارية لكل المعتمدين في المالية، بالأمور المالية والبنوك، لحصول الوكلاء على مستحقاتهم لتلافي العقبات المالية، ولتشجيعهم على سرعة الاستجابة لإصلاح الأجهزة، وحول حجم العمل الضخم والخدمات المقدمة في المركز، لفت د. حسين إلى أن المركز يستقبل كل عام نحو 3500 مريض أورام جدد إضافة إلى آلاف يتابعون العلاج من محافظات إدلب طرطوس وحماه والغاب وقسم من حلب وقسم من حمص، مع وجود مركز البيروني في دمشق، حجم العمل ضخم، وهذا يحتاج إلى جهود عدة وزارات معنية، وتعمل الوزارة على تركيب جهاز علاج شعاعي في حماه.
وشكر د.حسين المؤسسات والجمعيات الخيرية التي تدخل على خط المساعدة، ومنها جمعية (فرح) للسرطان التي قدمت جهاز إيكو غرافي، وأطباء الجمعية الأمريكية_السورية (سانس)، مرحباً بمشاركة المجتمع المدني بأطر قانونية ضمن أفق واضح،
وختم بالقول: السرطان ليس مرضاً وراثياً لكن هناك عائلات لديها استعداد وقصة سابقة للمرض، لابد من نشر الوعي بالكشف المبكر، وهناك أنواع نسبة الشفاء فيها عالية جداً، وكل مريض حالة خاصة، لنتجاوز الرهاب والتكتم، فالسرطان ليس بداية النهاية وتطوير فكرة النظر إليه كمرض مزمن ويمكن الشفاء منه، ولكشف أسباب انتشاره نحتاج إلى دراسة وطنية على مستوى سوريا، تشترك بها كل الوزارات لدراسة واقع السرطان في سوريا من حيث الشيوع والانتشار والمسببات.