العدد: 9361
الأحد-9-6-2019
في ستينيّات القرن الماضي، كان لحارتنا منهلُ ماءٍ وحيدٍ تتوزّعُ مياهه على البيوت بالتّناوب عبر الخراطيم بالنّسبة للقريب منها، والبراميل الصّغيرة أو الأواني على اختلافها للبعيدة.
أمّا المنازل ذات الطابقين أو الثّلاثة، فكانت تعتمد على أبي محمودٍ بائع الماء المعروف بصوته الجهوريّ المجلجل ولكنته الحديديّة، فيحمل صفيحتين من (التّنك) معلقتين بخشبةٍ يبدو بهما كميزان متحرّك.
على الرّغم من تدفّق المياه دون مقابل، إلّا أنّ أبا محمودٍ لا يتوقّف عن العمل المأجور، ولا يقصّر بتقديم خدماته المجانيّة لمن يحتاج المساعدة في الملْءِ والحمل والتّأكد من عدم تسرّب المياه.
من بين الزبائن أمّ راتب التي كانت تستقبله دائماً بعبارة:
(ستقومُ الحكومةُ قريباً بتمديدِ وإيصال الأنابيب والقساطل لكلّ منزلٍ، وسيكون لكل غرفة صنبورها)، فيقابلها أبو محمود بضجّةِ مشوبةٍ بالهلع، ثمّ يرفع يديه ويقول:
(اللهّم لا تقطع أرزاقنا) انتقلتْ أسرتي إلى حيّ بعيدٍ أكملتُ فيه طفولتي، والماء فيه كما تتمنّى وتشتهي أمّ راتب.
وتقفزُ الأيّامُ على سلالمها، و.. بعد خمسين عاماً وأكثر، عدتُ لذلك الحيّ القديم زائراً، لأجد المعالم قد اختفت واختفى معها أبو محمودٍ الّذي كان يبيع مؤخراً (ماء الزهر) لزبائنه، بعد أن نجح بجمع أزهار اللّيمون وتقطيرها، مؤكّداً على أنّه لا ولن يُجيدَ سوى جمع الماء وبيعه، فالتّعامل مع الماء يقرّبه من الحياة، ويُشْعره بأحاسيس العطشى، فيستمتع بما يقدّمه، وكان دائماً يقول: دروس الماء أتعلّمها كُلّ يومٍ ولو بماءِ الزّهر، كم تنقصنا دروس الماء، لنتعلّمَ منها كيف نغسل تراكماتنا.
بعض الضّمائر لا يصلها الماء أبداً، ولا تعرف أين
وكيف تغتسل! من منّا ذاكرته نظيفةٌ؟
ومن منّا ينظر إلى المستقبل بعينين مفتوحتين وقلبٍ نقيٍّ كنقاء الماء؟ لكلٍّ منّا أكذوبته الّتي يستحمُّ بها كُلّ يومٍ، مخبّئاً الحقيقة إلى لحظة الاحتضار.
سمير عوض