الوحدة: ١٤-١٠-٢٠٢٣
في اللحظة التي يولد فيها الإنسان يصرخ صرخة الخلاص دون أن يعلم أن الصرخة إيذان ببدء المواجهة ..مواجهة بين حياةٍ خرجت من داخل رحمها للتو، وحياة موجودة خارج الرحم ومستمرة منذ الأزل، وكأن الإنسان يخرج من رحم الحياة الصغير بظلماته الثلاث ليبتلعه رحم الحياة الأكبر بكل ما فيه من متناقضات الخير والشر، والحزن والفرح، والأمل واليأس، والاستمرار والانقطاع، والشبع والجوع، والرضى والنكران، والحب والكراهية، والسلم والحرب، والنجاح والفشل ،والتفاؤل والتشاؤم، والحركة والتوقف ..إلى أن يصرخ صرخة النزاع الأخير إيذاناً بنهاية مواجهة لم تكن متكافئة على الإطلاق ليبتلعه رحم الأرض. مهما اجتهد الإنسان في مواجهة هذه التناقضات يبقى الانتظار سمة وجوده وعنوان مسيرته .فالحياة في أصلها وإن اختلف الفلاسفة في أمرها ما هي إلا انتظار للموت. لذلك نسعى و نجتهد في مفاصل حياتنا، وننتظر النتائج متسلحين بالأمل حادياً في الارتقاء نحو نتائج أفضل وأسعد ، وبالنسيان بلسماً يداوي فشلنا وحزننا وجراحاتنا، وما ساعة الوقت المُشَكّلة من ثوانٍ و دقائق وساعات في حقيقتها إلا عداداً لهذا الانتظار.
مفهوم الانتظار لدينا نحن السوريين في زمن الحرب انقلب كما انقلبت كافة المفاهيم والموازين الأخرى على وقع الوجع وتلك هي سنة الحروب.
الانتظار في زمن السلم والأمان ممتع رغم ألم النتيجة، لذيذ رغم مرارة المآل، ففرجة الأمل كانت دائما أوسع بكثير من انقباضة اليأس، وبلسم النسيان كان ناجعاً في علاج آلامٍ لا سبيل لديها إلى الاستعصاء، كانت الأحلام بسيطةً لا تحتاج إلى عبقرية المفسرين وتأويلهم، مشروعةً آلياتُ تحقيقها وتطويرها في متناول يد الجميع كلً على قدره، أما في زمن الحرب أضحى الانتظار مؤلماً موجعاً فاقد النتيجة غائم المآل.
واستحال الأمل ألماً ولم يعد للنسيان مكانً بين أوجاعٍ أدخل تراكمها الأرواحَ في حالة إزمان المأساة واستعصائها، و انقسمت الأحلام بين سهلٍ ممتنع ومعقدٍ مستحيل وأضحى تفسيرها يحتاج إلى بعث المفسر ابن سيرين من قبره.
في زمن الحرب تناظر الأم عداد الانتظار وفي سريرتها تنشب أظفار الهواجس: هل يعود؟ … متى سيعود؟ … كيف سيعود؟ …
في زمن الحرب ينتظر رجل الخنادق رؤية عائلته: هل أراهم؟ …متى أراهم؟ …كيف سأراهم؟
في زمن الحرب تنتظر النساء رجالاً قادمين من غبار المعارك وتنطلق الزغاريد لقادمٍ يهلل مشوحاً بيده أو لقادمٍ على الأكتاف يهلل حاملوه ويشوحون بأيديهم.
في زمن الحرب تنتظر امرأةّ وداع جثمان شهيدها بعد مضي أشهر على خبر استشهاده.
في زمن الحرب ينتظر الأطفال في مناطق حاصرها حملة الأعلام السود طائرة “اليوشن” تلقي إليهم ما يقوّم بأودهم كصغار عصافير اشرأبت إلى حوصلة أمها.
في زمن الحرب ينتظر الجريح قدوم كرسيه الكهربائي المتحرك أو طرفه الاصطناعي المتطور ويضحي اسمه رقماً على قائمة الانتظار.
في زمن الحرب تمارس الأمهات انتظاراً يومياً على موائد الطعام الشحيحة لقدوم أولادهن من المدارس والجامعات سالمين من غدر مقذوف حاقد.
في زمن الحرب ينتظر الناس عودة أحبابٍ لهم غيبهم الخطف أو اختفوا خلف الموج.
في زمن الحرب ينتظر النازح القابع في ركام الخيام عودته إلى بقايا داره المدمرة.
حتى الرصاصة في مخزن بندقيتها تنتظر في زمن الحرب أن تجري إلى مستقرٍ لها.
في زمن الحرب أضحت الحرب بلاءنا الأصغر وصار الانتظار ابتلاءنا الأكبر…. إلى متى سيطول الانتظار … متى ستتوقف تكّات عداده؟ .
مع كل تكة من تكات عداد هذا الانتظار المر سلام الله وقدس سكينته إلى أرواح
شهدائنا الأبرار.
شروق ديب ضاهر
تصفح المزيد..