العدد: 9359
الأحد-2-6-2019
الهوية بمفهومها العام هي مجموعة السمات التي تميّز الإنسان من سواه, وتتشكل هذه السمات من علاقة الإنسان بالآخر, وهي علاقة إشكالية تتحكم بها مفاهيم إيديولوجية ونفسية واجتماعية, كما تتجاذبها مواقف تتنوع بين الانتماء والإبداع والكينونة والصيرورة، وفي محاولة لمقاربة إشكالية الهوية وفق منحيين: العلاقة مع التراث, والعلاقة مع الغرب، التقينا د. محمد علي من جامعة طرطوس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية..
* ما هي إشكالية الهوية وفق العلاقة مع التراث؟
يشكل التراث بوصفه عمقاً حضارياً للفرد هوية تاريخية له, إلا أن هذه الهوية تُبقي الفرد في إطار الماضي وتمنعه من مواكبة المتغيرات إذا ما نظر إليها نظرة إيديولوجية سلفية, فالإيديولوجيا السلفية تعيد إنتاج الماضي بوصفه معطى حضارياً سامقاً, ومثلاً أعلى ينبغي احتذاؤه, وهي بذلك تتعامل مع التراث بوصفه ميراثاً يجب الحفاظ عليه, غير أن بين التراث والميراث بوناً شاسعاً, ومن هنا يجب أن نفرّق بين أن يكون الماضي ذلك المعطى الجمالي لديمومة إبداعية متحركة ومستمرة بدافع من قوة التحول (ماضي الحداثيين), وبين الماضي من حيث هو سكوني لا يوحي إلا بثبوتية معاييره المغلقة (ماضي السلفيين).
يميز أدونيس بين التراث الذي يُستعاد على سبيل التقليد والتراث الذي يُستعاد على سبيل التحفيز, لذا يدعو أدونيس إلى الاستفادة من معطيات التراث المعرفية في خلق رؤيا جديدة للإنسان والكون, فالهوية لا تعني عنده المحافظة على التراث والتمسك بالأصالة الساكنة, (ذلك أن الأصالة ليست نقطة محددة, أو موقعاً ثابتاً في الماضي, لا نقدر أن نثبت هويتنا إلا بالعودة إليه, وإنما هي بالأحرى, الطاقة الدائمة في الإنسان والمجتمع على الحركة والتجاوز في اتجاه المستقبل – اتجاه عالم يتمثل الماضي, ويتملكه معرفياً, فيما يستشرف مستقبلاً أفضل).
وتنويعاً على هذا الموقف الأدونيسي من الهوية, يميز أدونيس بين هوية الانتماء وهوية الكينونة, ويرى أن حقيقة الهوية الإنسانية لا تكمن في مجرد النشأة والانتماء, وإنما تكمن على العكس, في العمل و الصيرورة, فالإنسان لا (يرث) هويته بقدر ما (يخلقها), لذا فهو يرفض المفهوم السائد للهوية بوصفها نوعاً من التطابق بين العقيدة والجماعة, لأن هذا التطابق يؤدي إلى ثبات الهوية, والمثقف الخلاق لا ينظر إلى الهوية على أنها معطى ثابت, فهي (ليست ائتلافاً وتماثلاً مع جوهر ثابت مسبق, و إنما هي اكتساب, إنه يخلق هويته, فيما يخلق كتابته)، فالهوية تتغير بتغير الزمن والمجتمع والإنسان, إلا أن تغيرها لا يعني انقطاعها عن أصولها بقدر ما يعني إكمال رسالة هذه الأصول في الإبداع والرؤيا بأدوات جديدة متساوقة مع العصر الحديث ومعطياته.
إن تحقيق التكامل بين الأصالة والعصرية يكمن في النظر إلى التراث بوصفه معطى حضارياً، قيمته في أن نجعله دينامياً حركياً, لا استاتيكياً سكونياً, وفي أن نجعل منه حافزاً على بناء حاضر جديد، فالماضي في مفهومه السليم ليس كياناً من الحقائق الساكنة العاطلة، بل هو أولاً وقبل كل شيء جملة من الرموز والقيم المحركة, وهذا الماضي يظل غنياً طالما حافظ على هذه الرموز المحركة، ولا يغدو تخلفاً وجموداً إلا حين تفقد هذه الرموز حركيتها المحفزة على الإبداع المتجدد.
* ما هي إشكالية الهوية وفق العلاقة مع الغرب؟
تجاذبت العلاقة مع الغرب على المستويين الثقافي والشعري مواقف نقدية مؤيدة ومعارضة, وكانت الهوية محور هذه التجاذبات, فالتفاعل والتواصل مع الغرب ضرورة حضارية برأي المؤيدين, وهي ضرورة تنبع من أهمية مواكبة آخر ما توصل إليه الغرب في شتى الميادين, والإفادة منه في خلق رؤيا حداثية للكون والإنسان وفق مبدأ المثاقفة, إلا أن المعارضين يأخذون على المتثاقفين مع الغرب استلابهم أمامه, وهو استلاب يؤدي إلى طمس الهوية العربية بتحول هذا التثاقف إلى غاية بحد ذاتها.
ولئن قَبِل بعض النقاد بالتواصل مع الغرب, فإنهم اشترطوا أن يكون هذا التواصل وسيلة وليس غاية, الهدف منها التجدد والتطور وإغناء المعطيات الثقافية بما يتلاءم مع خصوصية المجتمع العربي وتطوره, بحيث تتضافر العوامل الخارجية مع الداخلية في سبيل تشكيل مناخ ملائم للتجديد, ولذلك يشترط هؤلاء النقاد التمثّل والتفاعل والأصالة لقبول المؤثر الخارجي, (فالتمثّل شرط للتفاعل, والتفاعل شرط للإبداع, وهما من مقومات الأصالة, وهذه الشروط متداخلة متفاعلة لا غنى لأحدها عن الآخر, ولا فصل فيما بينها في آلية العمل الإبداعي).
* هل التأثر ضرورة؟
إن التأثر بالغرب ضرورة لابد منها, على أن يميز المتأثِّر بين علاقة بإنجاز جاهز وعلاقة بعقلية تقف وراء هذا الإنجاز, فيستفيد المثقف العربي من هذه العقلية في إنجاز هويته الخاصة, صاهراً كل المعطيات التراثية والغربية على نحو لا يطمس الهوية بقدر ما يؤصلها ويمنحها طاقة حركية تواكب المتغيرات.
وبعد, يمكننا تكثيف إشكالية الهوية في سؤال أدونيس: (هل الهوية جوهر منفصل, قائم بذاته, أم هي على العكس علاقة – و كيف نحددها؟), وفي إطار الجواب على هذا السؤال نقف أمام مفهومين يتجاذبان الهوية, وهما السكونية والتقليد, وكلا المفهومين ينطلقان من خلفية إيديولوجية في التعامل مع الآخر, والإبداع الحقيقي يرفض الانصياع لإيديولوجيا لا تقبل الحوار, فمن جهة لا بد للهوية من أن تتجاوز سكونيتها لتغدو فاعلة ومنفعلة في الوقت نفسه, فالهوية (لا تكمن في المُنْجَز وحده, وإنما تكمن في ما لم يُنجز بعد، ليست من جهة ما انتهى, بقدر ما هي, بالأحرى, من جهة ما لا ينتهي، ليست القيد, بل الحرية، فالهوية ليست في الانتمائية المنغلقة وإنما هي تفتّح يظل في صبوة إلى مزيد من التفتّح) ومن جهة ثانية لا بد للهوية من أن ترفض التقليد, سواء أكان المُقَلَّد تراثاً أو غرباً, لأن التقليد نفي للهوية, فالحفاظ على التراث وبعثه واستمراره تحت ستار الأصالة يؤدي إلى اغتراب الشاعر عن واقعه وحاضره ومستقبله عبر تكراره لما تم إنجازه في مراحل تاريخية سابقة تتمايز على مختلف المستويات عن المرحلة الحالية, والتأثر بالغرب بطريقة انعكاسية لا تراعي خصوصية المجتمع العربي تحت ستار التواصل الحضاري يؤدي إلى استلاب الشاعر أمام هذا الغرب الذي بنى هويته الحضارية في ظروف تختلف على مختلف المستويات عن ظروف الواقع العربي الراهن, والحل يكمن في (التعادلية الثقافية) التي تجمع الأصيل العربي إلى الميراث الثقافي والحضاري العالمي، الحل, بمعنى آخر, هو بالوعي الثقافي أولاً, والإبداع داخل الهوية القومية ثانياً, وهذا يتطلب بناء الشخصية العربية بما يكمن فيها من لغة وتاريخ وذاكرة وعقل وخبرات وطاقة وحيوية, وبما فيها من قيم وتقاليد ورموز, والأهم من ذلك كله بقابليتها للتحول والتجدد.
نور محمد حاتم