العدد: 9358
30-5-2019
السر في العمل الأدبي لا يدرك قشعريرته إلا من أوتي من رحم الطبيعة الأم موهبة مجدولة بمشيمته، مصدرها الخالق وعمق التجربة وخصب الشعور وغنى الوجدان وطواعية القلم، والنقد ليس مجرد إنشاء لغوي لاستشراق الآفاق الإبداعية والإنسانية والجمالية لإنشاء لغوي مسبق، بل فعل إبداعي يواكب الإبداع الأدبي العربي في مسيرته الطويلة والعميقة، لا يقل أهمية وجمالاً عن العمل الإبداعي نفسه، وحصيلة عصور من الرقي والحضارة الإنسانية.
النقد هو تمحيص العمل الأدبي وتقييمه تقييماً صحيحاً وفق معايير محددة، واستبصار رؤيوي لإضاءة المتاهات والبنى الخفية لعالم النص، وكشف وتظهير المخفي بين سطور العمل ونبش الأفكار والمعاني المخبوءة والعثور عليها، ورصد الجوانب الفنية وتطور جماليات القصيدة العربية بدءاً من تخوم النص الجاهلي وصولاً إلى منازل القصيدة الحديثة، لكشف الجيد من الرديء ومعرفة ما فيه من عيوب.
من وظائف النقد تعميق دراسة الأدب العربي ومكوناته وغايته ودلالاته والإشارة إلى الموسيقا الشعرية والصور البيانية والأبعاد الدلالية المتداخلة، والبحث عن مواقع الظلال في الصور الوردية اللامعة، وإيجاد المفارقات وخلق الحوار بين دلالات النص وذهن القارئ، وتبيان مآل الكاتب والمرمى الذي يستهدفه واتجاه بوصلته في جزئيات عمله، وتبيان الطريقة في تناول الموضوع وبناء الشخصيات، وبث الرؤى والأفكار والمعاني، ومدى الإمتاع والجذب، اللذين يعدان شرطين هامين لنجاح العمل وانتشاره.
يقوم منهج النقد على عرض الأفكار والحقائق، وقرن الشيء بضده لتحديد قيمته وإيلاء بالغ العناية للجزئيات والصغائر قدر الاهتمام بالكليات والكبائر، وتوسيع زاوية الرؤية إلى 360 درجة بأسلوب أدبي رفيع قادر على استنبات الدهشة والإعجاب معاً تخفق في تضاعيفه نبضات القلب وترتسم بين كلماته خفقات الوجدان، موشاة بقالب من الحسن والجمال، كي يستلهم القارئ فكرته ومرامه في جو من الراحة والمتعة وكأنه يرتشف رحيقه وثماره من رياض تفوح بعطر الزهور.
النقد الموضوعي البناء لا يمكن أن يكون تصالحياً، والناقد التصالحي لا يملك أدوات النقد والحساسية العالية القادرة على الارتقاء بالنص، حيث يمتاز النقد الموضوعي بالاقتصاد في الشرح وعدم الإسراف في التفاصيل والبساطة والعفوية في رصد مواطن الجمال الأدبي والإنساني وإبراز الصورة الفنية ومكامن العاطفة والأحاسيس والمشاعر الجياشة في النص الأدبي.
الناقد يجب أن يكون على درجة عالية من الثقافة والاطلاع، صاحب ذوق بصير بمواطن الجمال وقدرة فذّة على تتّبع أسراره المستكنَّة وجوهره الخبيء، يضيف إلى الأدب صرحاً جديداً يبنيه من عصارة التجارب وزبدة الأفكار وتجليات الموهبة والإبداع، والناقد العارف بالخفايا والدلالات نابع من صميم تجربته ومستوى عمقها وثرائها، يتجسس بعين لاقطة على المناطق المحتجبة للعواطف والمشاعر، ويعرف كيف يغرف من مرور النجوم ومضاتها التي تدخل القلب ولا تخرج منه، يجيد التشريح للواقع ويجيد المعالجة الواقعية للحياة وتحولاتها، يغوص في أعماق بنيوية النص بحثاً عن اللآلئ التي تشكلت من العذاب والألم والقلق والضيق والجوع والصداع والصراع، والتعب والكآبة والقهر والتشرد والحرمان، والحب والإحساس بآلام وأوجاع الآخرين.. بذكاء حاد، وفطنة مدهشة وحرص على المتعة والاكتشاف والتوليد والاشتقاق.
النقد الرديء كالشجرة المريضة لا يأتي إلا بثمار رديئة مريضة، وعندما تصبح المجاملة أكبر من مستوى الأديب فإنها تصل وتعمل على تضليل القارئ، والمبالغة الزائدة في النقد مديحاً أو قدحاً تفسده وتخرجه عن الهدف الموجود من أجله، ولا أحد ينكر دور النقد وخطورته في نسف تجارب أدبية من خلال خلخلة المفاهيم وزعزعة الرؤى والعبث وتحريف المضمون والغايات وإبراز تجارب رديئة وطمس الإبداع الحقيقي بأقلام بعض المغرضين والمشوهين الذين يستقون بالكذب المتعدد والمتشظي لدعم الأقوال الواهية وغيرها من الأفكار المريضة القريبة من السواد، يضمدون نقدهم بمنديل الكلام المعسول والكذب المحنط والمعنى الفارغ.
لا يقوم نقد مبدع إلا بوجود أدب مبدع، ولا يتطور أدب مبدع إلا بوجود نقد مبدع.. نحن مع النقد الذي يبني ولا يهدم، يوحد ولا يفرق، الذي يقود إلى الخلاص والتجرّد، والترفُّع عن حظوظ النفس وشهواتها.
نعمان إبراهيم حميشة