العدد: 9358
30-5-2019
للمكان الذي سكناه لسنوات طويلة ثم هجرناه، لا سيما أيام الطفولة ولم ننسها، ثمّة حياة ماثلة في الذاكرة، ووجوه تلك الحياة وصورها حيّة في الذهن والوجدان، صوت وصدى، ظلّ وحركة، وتجليات الأحلام المنكسرة…
مهما تقدّمت بنا الأيام، وتغيرت المعالم والاتجاهات.. تبقى في الذاكرة الحيّة النشيطة، لا تتغير فيها الطريق القديم ولا محطات اللقاءات والاستراحات ومواطن الصور الجميلة…
كان الفن وشتى ألوان الحياة الزاهرة والجلسات الملاح الحميمة في تلك الأمكنة تسمو وتعلو وتزهر كالياسمين، قبل أن تطالها آلة الحرب والدمار المسعورة، حيث أضاعت المعابر والمصاطب والدروب.. وعلى المفارق والأرصفة اختلط لـ الأصيل بالوضيع، وتداخلت المشاهد والصور.
فيما مضى كان ورد المكان يقطف ويهدى ويوضع في آنية وزهرية وبتلات الزهر في ركن آمن، إلا أنه مع مرور الأيام وتوالي الكالحات منها، راح لون الورد منها ورائحته العطرة يختفيان، لينمو الشوك ويطغى لون البارود ورائحته، وصور الدمار والموت والحرب والخراب.. وظلّ الشوك ينمو وشيئاً فشيئاً تقدّم وجه المكان الحجري المؤتزر بأغلفة الرصاص، وضلّ الحبُّ طريقه إلى القلوب..
لا ليس الوطن حقيبة سفر، متى ما شئنا رحلنا بها.. هو باقٍ معنا أو من دوننا، إنمّا بقدر ما يمتلك كل منّا الآخر عن ارتضاء وحب وتسامح، يتعزز ويصمد ويرسخ، وإلّا فلا يبقى الغرباء على المدن والقرى والذكريات.. فالطائر الأليف لا يبيت في وطأة كوابيس الدور والبيوت.
وحدها سواعد الشرفاء في ظلّ التشييد والبناء إعادة الإعمار تنهض بالبلاد وتضبط إيقاعها وتعيد تسمية الأشياء وتستشرف الانطلاق في رحلتها لا تجهل الطريق نحو النور والحياة.
بسام نوفل هيفا