قبــل أن تجفّ الذاكـــرة

العــــــــــــــدد 9356

الثلاثاء 28 أيــــــار 2019

 

سواعد قوية، ونفوس صبورة، وجباه سمرُ تسعى لنيل رزقها منذ بزوغ خيوط الفجر، تحتمل حرارة الصيف وبرد الشتاء القارس، ينجزون أعمالاً توكل إليهم على أرصفة مرفأ في مدينة يحكي بحرها تاريخها العريق على مرّ الزمان، إنه مرفأ اللاذقية قديماً الذي ما يزال يخبّئ في جوانبه قصصاً وحكايا ضمن زوايا ذاكرة نبضت وستنبض بالمحبة دوماً وبالتعب والجهد لتأمين متطلبات الحياة التي كانت سائدة آنذاك وذلك بالاستعانة بما وثقه المؤلف جميل سليمان الراهب في كتابه: (قبل أن تجف الذاكرة)، كوى في جدران الزمن العتيق، حيث أشار بداية إلى بوابة المرفأ قديماً والساحة التي هي عبارة عن التقاء شارعين، الأول هو امتداد ما كان يسمى شارع (الكورنيش) المتجه من الشمال نحو الجنوب عابراً موقع الكازينو وحديقة المنشية مخترقاً منعطف إدارة حصر التبغ والتنباك لينعطف نحو الجنوب الشرقي باتجاه شارع المشفى الوطني (الهاسبيتال) أو (الاسبيتال) كما كانت تسمى من قبل غالبية سكان اللاذقية وضواحيها مكونة فسحة أمام باب المينا تزدحم بالقادمين من العمال الأصلاء أو المياومين، وضمن هذا السياق قدّم المؤلف وصفاً عن أيام زمان عن مرفأ اللاذقية حيث قال: تزدحم الأقدام وتلتصق المناكب من قبل أولئك (الفعّيلة) المياومين القادمين من أحياء المدينة والضواحي الهلالية الشكل التي تحيط بها كأقواس يلي بعضها البعض واليد العاملة الفائضة تهبط إلى المرفأ في السنين الماحلة من قرى الضواحي ودقائق معدودة تخلو تلك الساحة ولم يبق فيها سوى من لم يسعفهم الحظ في انتقائهم للدخول إلى حرم الميناء، يتقدم من أسعفهم الحظ كل حسب اختصاصه أو المطلوب منه طيلة يوم عمل مرهق في أجواء لاهبة من حرارة الصيف أو البرد القارس من أيام الشتاء والرذاذ شبه المتجمد يقرع وجوههم دون انقطاع، وأضاف المؤلف حول هذا الموضوع: أمام الساحة المقابلة لمدخل الميناء رصيف يتسع لحاويتين الواحدة منها تسمى (ماعوناً) تقدر حمولتها بخمسين طناً من الخشب أو الحديد حيث يبدأ العمال باجترار ما بداخلها من تلك المواد فوق لوح من الخشب الذي يعتبر كجسير للعبور إلى البرّ المقابل حيث يتقاسم عاملان طرفيها فوق أكتافهما لوضعها في المكان المخصص لأمثالها والقسم الملاصق المواعين التي تملأ بأكياس القمح أو ما يماثلها من المنتوجات الزراعية يقوم بذلك عمال أشداء أقوياء البنية اعتادت مناكبهم على القيام بمثل هذا العمل المضني وتقطر فيما بعد تلك المواعين بواسطة مركب بخاري (لنش) إلى الباخرة التجارية الرابضة فوق المياه العميقة المقابلة لمنطقة المرفأ حيث ترفع تلك الأكياس على شكل حزم بواسطة رافعات عملاقة ذاتية الحركة مخصصة لمثل هذه الأعمال أما البضائع المستوردة مثل قبضان الحديد والأخشاب وهي الغالبية بما تحمله تلك المراكب بالإضافة إلى بعض المصنوعات الآلية ضمن صناديق خشبية محكمة الإغلاق كانت ترفع من على سطح الباخرة أو من داخل عنابرها بواسطة تلك الرافعات لتضعها ضمن تلك الحاويات التي تنتظر قريباً من قسمها العائم لتعود بها إلى حرم المرفأ لتنقل إلى الأقسام المخصصة لها من مساحة محددة.

وأردف المؤلف إن الحركة كخلية نحل من الصباح الباكر إلى ما بعد الساعة الرابعة عشرة ظهراً لتهدأ بعدها تلك الجلبة والضوضاء فينصرف أولئك العمال مشكلين أرتالاً متوازية أمام المكلفين بدفع أجور أتعابهم اليومية المخصصة لكل فئة منهم وحول الأجر اليومي أوضح المؤلف أن الحمّال أو (العتّال) لا يتجاوز أجره اليومي (خمس ليرات سورية) والذي يتقاضى هذا الأجر يعتبر من مقدّمة الحمّالين وكبارهم أما أولئك العمال الذين لم يحالفهم الحظ ليكونوا ممن لم يتم انتقاؤهم بسبب مظهرهم الخارجي الذي لا يوحي بالقوة وتحمّل أمثال تلك الأعمال الشاقة فيعود أولئك التعساء إلى شوارع وساحات المدينة المعروفة آنذاك علّهم يقعون على عمل ما كحمّالين في أسواق الخضار أو لترميم بعض الجدران أو الأبنية.

ندى كمال سلوم

تصفح المزيد..
آخر الأخبار