بين الشـط والجبل … فوق أرصفة الأنهار

العدد: 9354

الأحد-26-5-2019

 

 

 

(إلى روح طاغور روح الشرق وصديق الإنسان نؤكد لك أنهم كانوا ومازالوا ينظرون إلى الشرق على أنه مناجم ومزارع ورقاب، وأن ما تعلمناه منهم هو أن حريتنا لا تؤخذ إلا بالسلاح والدم)، (كلكتا) نهر من قصائد طاغور، ونهر من طيور..
فوق أرصفة الأنهار والضباب برتغاليون ومغول وهنود.. بشر وطيور بلون جذوع الشجر وكثير من حكايا الشرق البعيد.. يبتسمون بخجل، ويمضون كالظل إلى حدائق الغانج.. تحت فيء مائه يستظلون ويبتهلون لإله بعيد..
فوق الأرصفة وفوق الجسور يتربعون أو يتمددون أو يغتسلون.. يمدون أيديهم للشمس الغاربة وللعابرين.. لهم طباع العصافير ولهم الفضاء.. لهم كومة من طين ونبع من عبث الموت.. طائرات ورق وباعة كرات من الطين المقدس وشحارير على أهبة الغناء..
رائحة تاريخ موغل في براري الحضارات تفوح من مخطوط وكتاب ومصحف شريف.. ملايين الكتب.. ملايين القصائد وملايين الأقوال والحكم النازفة من القلوب.
تتدفق الموسيقا شلالاً من الرحيل.. أصوات تتراقص كالندى فوق شفاه الكرز (والمنجا) آلهة تبتسم وآلهة تتأمل أسراب العابرين.. صوت طاغور يتهادى فوق الجبال كجواد ويسترسل في حديقة البيت كنبي.
بحزن يتنفس الصباح، وبحزن تتمطى الغيوم.. يفتحون أبواب الأرصفة للشمس الحرون.. يتثاءبون من شدة النعاس والجوع.. تتزاحم الأشياء.. الموسيقا.. الحفاة.. والعصافير وتتكدس الأجساد في عنابر الأرصفة كأكياس ملح محروق.
(كلكتا) وصباح مشبع بالغيم والرذاذ والشمس الحرون.. عربات مشدودة إلى ظهورهم.. (مهراجا) وبيت من العنبر والمسك.. صبايا يأتزرن بسمرة الأرض طاقة من زهر أرواحهن تتنفس على واحة صدر طاغور.. فوق يديه النحيلتين تحط فراشات قلوبهن المضمخة بالحب والخجل وعطور الجبال..
وجهه طافح بالقصائد والموسيقا العذبة.. تنطلق الأغنيات من أرجاء بيته وتفوح روح الشرق الأزلية الخالدة.. يتناهى صوته الخجول إلى رأس الغانج مداعباً إياه بأصابع القصائد، ولحيته الكثة البيضاء تطلق صُداح صوته الذي انبعث كالربيع في خريف (نيويورك) عندما لبى دعوة من شعراء أمريكا بعد نيله جائزة نوبل عام 1921، وكان قد افتتح الاحتفال الشاعر الأمريكي مورغان بكلمة قال فيها: (إن روح الغرب هي روح العمل والإقدام والفتوح، وعلى هذه الروح بُنيت مدينتنا).
أما روح الشرق فروح التأمل الهادئ والنظر إلى ما وراء العالم المادي، وأرى أن الغرب بحاجة إلى روح الشرق، والحضارة لا تكتمل إلا بتمازج الروحين.
ورد عليه طاغور بصوته الهادئ وروحه الوهاجة كشمس بلاده: (إن قوتكم جعلتكم تستبدون بأهل الشرق، وتنظرون إلينا نظرة سطحية فازدريتم حضارتنا ولم تروا فينا غير الضعف هو ذا غربكم القوي يقبض على عنق الشرق الضعيف يحرث عليه ويسخره.. عندكم كل شيء.. عندكم المال والعلم وأسباب الدمار، ونحن لم نتعلم منكم حتى الآن غير شيء واحد هو أن الإنسان لا يأخذ حريته إلا بالسلاح والدم).
وأضاف: (تعالوا إلى بلادنا لا لأجل المناجم والثروات بل لتروا روح الشرق الحقيقية ولتسمعوا ضربات قلبه وتعرفوا سر روحه.. تقدمون لنا مبادئ الحياة الجديدة ونقدم لكم مبادئ الروح الأزلية).

بديع صقور

تصفح المزيد..
آخر الأخبار