بين الشـط والجبل…. شعراء يكتبون لأنفسهم!

العدد: 9352

الأربعاء: 22-5-2019

 

 

(الحشرات المرفوسة لا تعض، الحكم للعقل الجنوبي)، كلمات متداولة ومعلومة لدى القارئ لكنها معزولة عن بعضها البعض ونلاحظ أن تجميعها على هذا النحو يوحي بالغرابة والغموض.
كثيراً ما تطالعنا مثل هذه العبارات المبهمة في قصيدة النثر الدارجة بحجة أن الغموض يعزز مكانة الكاتب ويبرز عضلاته الإبداعية، لكنني أتساءل ما الفائدة من نص شعري لا يفهمه المتلقي؟
بالعودة إلى العبارة التي بدأت بها والتي تبرز أهمية السياق في تأويل النص الأدبي فهذا مثال جُرد من السياق الذي ظهر فيه، لذلك لم يعد بمقدورنا تفسير النص.
في كتابهما الهام (تحليل الخطاب) يرى (يول وبراون) أن محلل النص ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار السياق الذي يظهر فيه النص، والسياق لديهما يتشكل من الكاتب والمتلقي والزمان والمكان، لأنه يؤدي دوراً فعالاً في تأويل الخطاب، فالعبارة السابقة ظهرت على أحد جدران مدينة غلاسكو في اسكتلندا (المكان)، أما الزمان فهو في السبعينات، حيث كانت تنشط في تلك الفترة مجموعة من العصابات في تلك المدينة، من خلال هذا السياق نستنتج أن الكاتب عضو في عصابة (العقل الجنوبي) والمتلقون المعنيون هم أعضاء من عصابة (الحشرات) ولغة التخاطب بين عصابات الشوارع تتمثل في تبادل الشتائم الاستفزازية (الحشرات المفترسة لا تعض) ولغة التخاطب بين عصابات وبناء على ما سبق يمكن للمتلقي أن يؤول الخطاب السابق بأنه موجه من عصابة إلى عصابة أخرى محذرة إياها من مغبة خرق قانونها.
فهذا الخطاب موجه إلى مخاطبين معينين لا إلى عامة الناس، ومن الصعب على العامة فهمه دون أن يكون لديهم علم بالفرضيات المشتركة والتجربة السابقة.
ما دفعني للاستشهاد بهذا المثال هو لجوء كثير من شعراء اليوم إلى هذا الأسلوب في كتابة قصائدهم الغامضة وكأنهم يتوجهون بنصوصهم التي تشبه الألغاز والطلاسم إلى أنفسهم لأنهم الوحيدون القادرون على فهمها وفك ألغازها.
هؤلاء الشعراء فهموا الحداثة في قصيدة النثر على غير معناها الحقيقي، فهم يخلطون بين الرمزية الموجهة وبين الغموض المتطرف أو الهذيان المجاني، ولم يدركوا أن الرمز المدروس أو الغموض الشفاف المحبب خيارات جمالية وتقنية فنية عالية لا تُقحم بشكل اعتباطي في النص وإنما تدمج فيه بمهارة لتبرهن عن شاعرية فذّة وتدعو القارئ إلى التأمل والتفكير العميق والشهي من خلال ضوء جمالي خافت يتركه الشاعر ليستهدي به القارئ إلى المعنى أو الفكرة، وهنا أود التوقف عند ما قاله أدونيس المعروف بغموض عباراته حين وضع ضوابط دقيقة لهذه المسألة يقول (الشعر نقيض الوضوح الذي يجعل القصيدة سطحاً بلا عمق، والشعر كذلك نقيض الإبهام الذي يجعل من القصيدة كهفاً مظلماً).
الشعر الذي نريده، شعر يُمتع القارئ ويداعب مشاعره، يكافئ عيونه ويستوطن ذاكرته، لا شعراً نعاقبه به من خلال وضعه في متاهات لا يعرف سبيلاً لفك رموزها والخروج من طلاسمها المعقدة.

تصفح المزيد..
آخر الأخبار