على طــــــــريق إعــــادة الإعمـــــار «3».. كسر الحصار الثقافي .. كلمة الســـــــــرّ ومفتاح باب إعـــــادة الإعمـــار الشـّــــــامل

العـــــدد 9340

الثلاثـــــاء 30 نيســــان 2019

 

تعرّضت الثقافة السورية بمختلف مفرداتها وأدواتها إلى حصارٍ جائرٍ وعقوبات ثقافية طالت كثيراً من الأدباء والمفكرين السوريين الشرفاء ممّن صمدوا ورفضوا أن يبيعوا انتماءاتهم ومعتقداتهم ووطنيتهم، إضافةً إلى التدمير الممنهج والمقصود للمنشآت والمباني الثقافية التي كانت وستبقى منابر فكرٍ وأدب، هذا الاستهداف الثقافي على امتداد سنواتٍ ثمان هي عمر الحرب السورية طال أبعاداً ومرتكزات أساسية أيضاً في حياة كل مواطن على هذه الأرض الطيبة.

ولعلّ اللبِنة الأولى في بناء أيّ حضارة تاريخية هي الإنسان الواعي المثقّف المدرك لأهميته الإنسانية والثقافية والاجتماعية و و … الذي تعرّض لأبشع وأقسى أنواع الدّمار والتهميش والتخريب الثقافي في سورية، وفقاً لأدوات مموّلة، حاولت وما تزال، عزله عن مسار الحياة الثقافية، ودفعه إلى الحضيض الفكري والعلمي، وتكبيله بقيودٍ عقلية تسيّره وفق مبادئها وأهوائها العميلة، لكن المثقف السوري ابن الشمس السورية فطِن لحجم الحرب التي تتعاركه وصمد وحارب جنباً إلى جنب مع باقي أبناء وطنه الشرفاء، وبذل الغالي والنّفيس في سبيل عزّة أرضه وشرف وطنه.
وبعد التعافي وحالة الانتعاش والأمان التي سادت كثيراً من قطاعات الدولة، بفضل انتصارات وتضحيات بواسل جيشنا العربي السوري الأشمّ، لابدّ من وضع حجر الأساس لإعادة بناء ما تهدّم، وإعمار الثقافة ركنٌ أساسيّ من أركان هذا البناء، لا بل كلمة السرّ ومفتاح بابه العريض، ومن هنا – منبر صحيفة الوحدة- نتصدّى لهذه المهمة ونضطلع بدورنا الذي تحتّمه علينا الأمانة الوطنية ـ الفكرية والثقافيةـ حمَلة لواء النهضة والعمران، لا المادي والإنشائي وحسب، إنما العقلي والإنساني، ونستعرض في السطور الآتية بعضاً من العناوين التي طالتها الحرب الثقافية الجائرة، علّنا نسهم بشيءٍ ولو بسيط في إعادة إعمار حقيقية صادقة بنّاءة.
أول هذه العناوين: استهداف الهوية السورية، الثقافية تحديداً، ومحاولة شذّاذ الآفاق طمس معالمها، وتغيير حقائقها، وتزييف أصالتها وعراقتها، ونسف جذورها الضّاربة في التاريخ، لكن هيهات أن يفلحوا في مؤامراتهم ومكائدهم، إذ مهما حاولوا وكذّبوا ونافقوا ستبقى تلك الهوية ناصعةً بياض الثلج، ساطعةً سطوع الشمس، وعلينا تجذير هذه الهوية الوطنية ودعمها في المنحى الإيجابي البنّاء، للحدّ من دور الثقافة السلبية الهدّامة التي سادت مكاناً وزماناً ماضيين، ولابدّ من تفعيل دور النخبة الثقافية ومعها المواهب الشّابة المتميزة وإعطائها فرصة إثبات الوجود.
ويقصد بالهوية الثقافية المستهدفة كل ما يمتّ إليها بصِلة، من مصطلحات ومنشآت وأدباء ومفكرين، إذ حاولوا تغيير نسَبها، وحرفِها عن بوصلتها الأصلية، واستبدالها بهوية جديدة لا تمتّ إلى السوريين بصِلة، مزيفة، مشوّهة، لكن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، وبقيت هويتنا الثقافية محافظةً على اسمها ووجودها وعراقتها مهما حاول الأعداء.
ثانيها: الهجمة على الثقافة السورية، بمختلف حقولها، من آداب وعلوم إنسانية، ولغتها العربية الأصيلة، وفنونها الشعبية والتراثية والتشكيلية والمعاصرة، والمسرح، والسينما، والأدب والشعر والقصة، ومعارض الكتب ومكتباتها ودور نشرها وغيرها الكثير مما لا تتّسع له السطور والصفحات، ومما لا شكّ فيه أن الهوية هي جزء من هذه الثقافة، لا بل هما وجهان لعملة واحدة، واستهدافهما يشكل حلقةً في سلسلة الحلقات المفرغة التي لم ولن تنال من صمودنا وعقيدتنا، ودفع بالعملاء والمرتزقة إلى نسف وتدمير كل المفردات السابقة وفرض حصارٍ يطوّقها ويخنق القائمين عليها في غير زمانٍ ومكان، مما أدّى إلى تراجع الإقبال والحضور الجماهيريين لأيّ فعالية ثقافية وكبّل المؤسسات والمديريات التابعة لها، وفرض قيوداً بمنع استيراد أبسط مقومات وأسس المادة الثقافية ألا وهو الورق، وفرض نوعاً من حظر السفر على كثير من أدبائنا ومفكّرينا الشرفاء، وغيره من الإجراءات التعسّفية، لكن مع عودة الأمن والأمان كسرنا هذه القيود وعادت الحياة إلى نسغ الثقافة وأهلها، وانتعش جمهورها العاشق للفنّ والأدب، الذوّاق لما يطرب الأسماع ويبهر الأبصار، ومعه بدأت خطوات إعادة الإعمار وتنشيط الحِراك الثقافي ودفع عجلاته، وأخذت المديريات الثقافية وغيرها من مفاصل الثقافة السورية على عاتقها مهامّ التصدّي لهذه الخطوة مع عودة النشاطات والفعاليات والمهرجانات إليها، وخاصةً في المراكز التابعة لها على امتداد الجغرافيا السورية، ريفاً ومدينة، مع توفير مستلزمات الفعل الثقافي المتكامل، من المكان الآمن وسهولة الوصول إليه، إلى التوقيت المناسب، إلى استقدام أشخاص أكفّاء جديرين باعتلاء المنابر وتقديم نتاجهم إلى محبّيهم ومتابعيهم، لكن هذا أدى ـ في مكانٍ ماـ إلى ظهور وبروز أسماء جديدة غير كفوءة، لمعت وذاع صيتها لكنها لم تكن مستحقّة لما وصلت إليه من الانتشار والحضور، ويمكن تسميتهم بـ (المتسلّقين) وهؤلاء مجرّد فقاعات هوائية لا تلبث أن تنفجر بمجرد غربلتها وفصل الغثّ عن السمين منها، ويعدّ إبعادهم عن الجسد الثقافي لبِنةً في مدماك إعادة الإعمار أيضاً، لما يمثله وجود أمثالهم من إساءةٍ إلى أسمائنا الثقافية الكبيرة، وقاماتنا الأدبية العملاقة، ما يحتّم على أولي الأمر وذوي الاختصاص استقطاب المثقفين الحقيقيين، وزجّهم في عملية إعادة الإعمار، فهم الأساس المتين والمرجع الأصلي الأمين لبناء ثقافتنا وحضارتنا الواعدة، الضاربة جذورها في التاريخ، فنحن أبناء أوّل أبجدية في العالم، وصدّرنا أول نوتة موسيقية إليه، نشعر بحجم المسؤولية التاريخية أمام هكذا إنجازات حقيقية مشرّفة، ولئن كانت بعض تلك القامات قد انكفأت وتقوقعت على نفسها في وقتٍ ما من الأزمة، وفضّلت العزلة والانفصال عن الحياة الثقافية فإنّ عودتها بقوة إلى المشهد الثقافي يشفع لها ويكفّر عن خطيئتها، أما من لازال غائباً ومغيِّباً ذاته طواعيةً، فهؤلاء لن يشفع لهم لا إرثهم الثقافي ولا حضورهم اللاحق، لأننا الآن نحن بحاجتهم وعليهم الاضطلاع بدورهم ومسؤوليتهم الشخصية والعامة تجاه وطنهم ومواطنيه، ولابدّ أن يكونوا حجر الأساس أيضاً في ترميم ما تصدّع من قيمٍ وقناعات ومبادئ، والتركيز على الإيجابيات، ودحر السلبيات ونسفها، واستئصال الأورام الخبيثة من الجسد الثقافي السوري ليعود معافىً، والفتك بتلك الخلايا الطارئة ونبذها فهي غريبة عن أفكارنا ومعتقداتنا وجذورنا العربية الأصيلة، ويجب على كل من يضطلع بالأمور الثقافية وضع عناوين واضحة وعريضة للمرحلة القادمة، أساسها كسر الحصار الجائر وإعادة الإعمار بدءاً من أولى حلقات المجتمع وهي الأسرة مروراً بالمدرسة والجامعة وسوق العمل وصولاً إلى المجتمع الأوسع الذي يضمّ في بوتقته كلّ الفئات العمرية والشرائح الثقافية والاقتصادية والاجتماعية و …، وليحمل كلٌّ منّا إرثه وتراثه ويتسلّح بهما في وجه العملاء والأعداء، ولنحيي المسرح والسينما والمعارض والمهرجانات والأصبوحات والظهريات والأمسيات، لا سيّما المهرجانات المحلية ذائعة الصيت عربياً وعالمياً كمهرجان المحبة، ولنتصالح مع الكتاب وكتّابه وأهل بيته، ولنكرم شعراءنا وأدباءنا ومفكّرينا، ولنشدّ اليد باليد، لنبني ثقافة الغد، ثقافة أبنائنا وأحفادنا، ولنؤسس لهم القاعدة المتينة التي ينطلقون منها لمتابعة بناء الصّرح الثقافي المعادل للعمراني، وليكن كلٌّ منّا أديباً وشاعراً وفناناً تشكيلياً وممثلاً مسرحياً و .. يستقصي الثقافة من أهلها ولأهلها، فيصبح مركز إشعاع ينير عقول مَن حوله ويزيل الغشاوة عن قلوبهم قبل عيونهم، ولا ننسى أن الإنسان أهم صرحٍ حضاريّ وثقافيّ نبنيه ونؤسس له.

ريم جبيلي

تصفح المزيد..
آخر الأخبار