إعمــــــار الفكـــــر المتهــــدّم أولاً..

العـــــدد 9340

الثلاثـــــاء 30 نيســــان 2019

يسمّونها الحرب الناعمة، ويستخدمون وسائلها التي تتغلغل كالأخطبوط في أعماق المجتمعات المراد تقويضها وتهديم محتواها من التراث والثقافة والحضارة، وذلك بهدف التخريب من الداخل، وإسقاط المجتمعات بأيدٍ وأدوات ذات طابع محلي، ومن ثم تأتي التهديدات الناجمة عنها كجملة إجراءاتٍ مبرمجة ومخطط لها مسبقاً من أجل تغيير ثقافة الأفراد ومعتقداتهم وأصالتهم وصولاً إلى تغيير الهوية، إنها حالة حرب دائمة تركز على البعد التربوي الثقافي القيمي لتغيير الحقائق تحت تأثير الدعاية والترويج لمفاهيم وسيناريوهات جرى تأليفها وإخراجها بدقة وحرفية لتقديم رواية أخرى عن الحقيقة وتضليل الرأي العام، وهي حرب حقيقية فعلية تُشجع فيها عوامل الإلغاء والفناء على ضفاف الحروب التقليدية لكننا لا نراها ولا نلمسها، ولا نشعر بها كغيرها من أنواع الحروب الأخرى (العسكرية والاقتصادية) ومن هنا جاء التركيز في مسيرة سورية لإعادة إعمار ما أنتجته هذه الحرب على الإنسان أولاً من خلال العمل على إعمار الفكر المتهدم في البداية، فالحرب التي استهدفت سورية استندت في أدواتها ومرجعياتها على العوامل الاجتماعية والثقافية من خلال استهداف منظومة الوعي وبنية العقل في مجتمعنا ، والأزمة التي حلت بنا كشفت بشكل جليّ أن أزمتنا ثقافية وفكرية وهي حرب من نوع آخر، حرب تسعى إلى إكساب ظواهر الحياة كلها والثقافية منها خاصة سمة العولمة من خلال التضليل الإعلامي العالمي وقلب الحقائق وتشويهها عبر وسائل الإعلام والاتصالات, وبموازاة ذلك فهي حرب تعمل على تدمير المقدسات والخصوصية القومية، فقد أصبح جلياً أن المجتمع السوري هو المستهدف من خلال إفراغ مكوناته الحضارية، وإزاء ذلك لا بدّ من العمل على خلق تصور ننطلق منه لتشكيل كتلة مجتمعية سورية ريادية فاعلة للتأثير إيجاباً في حاضر ومستقبل سورية، والتوظيف الأمثل لثقافة المواجهة القادرة على تثبيت مجموعة من القيم والمبادئ والهويات المحددة عبر مؤسسات ثقافية تستطيع صناعة فعل ثقافي موازٍ تماماً لما يراد لسورية، مؤسسات ترسخ قيمة الأدب والفن كأداة مزودة بثقافة تنويرية في مواجهة ثقافة إرهابية، إدراكاً منها بأهمية وجودها في المعركة المصيرية لسورية التي تقود حرب الإنسانية ضد الإرهاب وتسعى جاهدة لتنتصر وتنهض من جديد بإرادة موحدة لإعادة الإعمار على مختلف الجبهات.

* بولس سركو: تزامن طرح جريدة الوحدة قضية إعادة الإعمار الثقافي مع تبني لجنة الثقافة والتربية في مجلس محافظة اللاذقية لنفس هذه القضية كعنوان عريض لخطة عملها، وهو تأكيد عفوي على مدى أهميتها وضرورتها القصوى في الظرف التاريخي بعد معاناتنا طوال سنوات العدوان على سورية من الأبعاد الحضيضية القائمة على ثقافة رجعية مذهبية وطائفية وعرقية أقحمتها العولمة المتوحشة داخل نسيجنا الاجتماعي واستأجرت لهذه الغاية أقلاماً محلية من نخب مثقفة ورجال دين لتكريس التخندقات وضرب وحدة النسيج السوري فهذا الواقع يضعنا أمام مواجهة بعيدة المدى وصعبة للغاية ولكنها واجب وطني وإنساني سيادي بامتياز.
إعادة الإعمار الثقافي من حيث المفهوم يعني تكوين شخصية الإنسان من عدة نواح، نحن معنيون هنا بالناحية الفكرية والنفسية التي تضعنا أمام سؤال دقيق وهام حول النهج، فما هي الثقافة التي نحتاجها لإعادة الإعمار الثقافي وما هي هويتها؟
بحكم تحليل وقائع ما جرى من خرق ثقافيّ للمجتمع السوري يمكنني اقتراح توجيه الثقافة نحو التالي:
– العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة والسياسة وتحترم في الوقت نفسه جميع الأديان وتصون حقوقها وتنمي الشعور باحترام الآخر المختلف.
– محاربة كل مظاهر التخلف الفكري والرجعية والتطرف الديني وتكوين شخصية المواطن السوري على الانتماء الوطني والإنساني بعيداً عن الطوائف والمذاهب والأعراق.
– اعتبار الإنسان قيمة عليا، الإنسان الاجتماعي طبعاً.
– الاهتمام بتغذية الشعور بالمواطنة عن طريق بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وبضمن ذلك محاربة الفساد.
بالنتيجة يمكنني تحديد هوية الثقافة السورية المطلوبة لمرحلة إعادة الإعمار الثقافي بالتالي:
ثقافة تعددية علمانية إنسانية وطنية سيادية نقدية ممانعة، وصفة الممانعة هنا لا تحمل معنى رفضوياً انعزالياً بل معنى السيادة أي الانفتاح على ثقافات العالم بروح المسائلة النقدية وتلبية المتطلبات المحلية من تلك الثقافات ورفض التبعية لأية ثقافة مهما بلغت من القوة المفروضة بالعنف والإقحام.
إن مهمة بناء شخصية الإنسان المواطن في دولة المواطنة وفق هذه الهوية الثقافية لا شك ستلقى معارضة وعرقلة النخب المثقفة المرتبطة بالمشروع الخارجي الأمريكي الصهيوني التي تسعى جاهدة للإبقاء على وضعية التخلف الاجتماعي التي تتيح لها التحكم بمصير أفراد وجماعات ذات رؤية قاصرة وهشة لاستخدامها في محاولات وضع العقبات أمام تحقيق وحدة النسيج السوري وتطوره الاجتماعي مما يفرض علينا أيضاً تحديث منهج الممانعة وتوسيع رقعة المجابهة الثقافية عن طريق العمل المشترك بين كافة القوى الوطنية، أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية ومؤسسات المجتمع المدني المرخصة وكافة المؤسسات الثقافية والتربوية لإنجاز مهمة إعادة الإعمار الثقافي.
أما أولئك الذين روجوا ثقافة العولمة الأمريكية المتوحشة في الداخل السوري فلا يمكنهم على الإطلاق أن يكونوا جزءاً من إعادة الإعمار الثقافي فلم تعد لهم أية مصداقية حتى بين الأوساط التي تمكنوا من تضليلها في العتمة.
الثقافة السورية تملك آلية الحذف والاصطفاء
الدكتور صلاح الدين يونس، رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب، اللاذقية ولا يوجد مصطلح تم تعريفه كثرةً ونوعاً كما تم تعريف الثقافة مفهوماً ومصطلحاً, ولكن تعريفات عديدة تلتقي عند نقطة جوهرية وهي أنها تشكل روح الأمة عبر تاريخ تكّون بلغة قويّة من مجموع من الأجناس الأدبية والمذاهب الفكرية والأنشطة الاقتصادية، وقد أفصحت عنه اللغة القومية من خلال الأدباء والكتاب والمبدعين ولا يغيب عن البال بعد عصر الصناعة أي القرن التاسع عشر قد أضيف إلى الثقافة الجانب التقني الذي هو شكل آخر للمعرفة التي لا يمكن أن تنفصل الآن في العصر الحديث عن الأدب والعلوم الدقيقة.
لبلادنا السورية تاريخ مديد وعريق في صناعة الثقافة، فقد بدأ الإنسان في زراعة الأرض أول مرة في التاريخ على ضفتي الفرات في الجزيرة السورية العليا, فاستنبت القمح وأقام البلدات، ومن هنا ارتبطت كلمة الثقافة بكلمة الزراعة وهي الثورة الأولى في العصور الحديثة, أي بعد أن تجاوز الإنسان العصور الحجرية والبرونزية، وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد أكملت العقلية السورية مشروعها الثقافي والحضاري عندما اخترعت الأبجدية في أوغاريت وقدمتها للعالم لتبدأ عصور الكتابة وليبدأ الإنسان مشروعه في النمو الفكري أينما كان وكما يجرّ الحسن على الحسناء حسداً وضيقاً وعذابات, فإن الوطن السوري عانى من الحاقدين والطامعين والحاسدين على مر التاريخ, ولعل ما حدث من مؤامرات وحروب على أرضنا وشعبنا في الفترة الأخيرة, كان أكبر من تصورات المثقفين والسياسيين, إلا أن طاقات الشعب السوري وقدرته على الاحتمال والمواجهة كانت أكبر من تصورات المتآمرين.
وكما بدأ الإنسان مقدماً ثقافته للعالم يستخدم الآن وفي الغد عراقته الثقافية في إعادة هيكلية الإنسان السوري من جديد بل في إعادة قراءة العالم مجتمعاً من جديد وفقاً للشروط الجديدة التي أفضت إليها نجاحات العقل السوري في الحرب والسياسة والزراعة وما تزال هذه النجاحات موضع تساؤل دولي وموضع اندهاش من الأصدقاء وموضع تساؤل مهين من الأعداء.
تعيش الثقافة في سورية لا بل تحيا عبر مؤسسات، فثمة أربعمائة وخمسون مركزاً ثقافياً على الأرض السورية تعمل بوتائر مختلفة كمركز من مراكز التنوير الثقافي والوطنية، وليست الأنشطة الثقافية وقفاً على المراكز الثقافية وحسب بل تمتد نحو مؤسسات أخرى، ففي كل محافظة هناك فرع لاتحاد الكتاب يضم مجموعة من الأدباء والمفكرين والعاملين في حقل الثقافة والتعليم العالي وما قبل التعليم العالي, ومعظمهم يعمل في التأليف والكتابة والصحافة, وكثير منهم يشارك في المنتديات المحلية والدولية.
تترافق عملية التنوير الثقافي التي طرحها اتحاد الكتاب في دمشق عام 2015 على مشروع إعادة البناء الثقافي وهذا عام يشمل ما تهدم من حجر وما تهدم من مؤسسات وما تصدع من مجتمعات, ويتجاوز مفهوم إعادة البناء والإعمار الهندسي ليصل إلى إعادة تقديم المناهج التربوية والأكاديمية على أضواء الانتصار السياسي والعسكري في الحرب, ويشمل أيضاً إعادة قراءة الأحداث التاريخية ولاسيما الحقبتين الأخيرتين وهما مرحلة الظلامية العثمانية والاستعمار الأوروبي لأن الرجعية العربية وعملاءها في الداخل وحلفاءها في الخارج نصبوا من أنفسهم أوصياء على الشعب السوري وكأن الشعب السوري يعيش حالة من اليتم ولكنهم جميعاً فوجئوا بأن المجتمعات السورية أبعد مما يتصورون وأقوى مما يظنون وخاصة في المسألة الوطنية، فقد ضحى الشعب السوري بجيل من أبنائه ليصون تاريخه وأرضه وعراقته وليرسم مستقبله بنفسه.
ما من شك, ظهر في المجتمع بعض المتسلقين وبعض المتآمرين وبعض ضعاف النفوس وقد خيّل إليهم أن العدو الخارجي سينصّب منهم حكاماً على شعبهم, فإذا بهم قد خسروا رضا الوطن السوري، لأنهم شخصيات فاشلة ليس لها عمق اجتماعي، تملك الثقافة السورية آلية في الحذف والاصطفاء في مسألة المعرفة والوطنية وارتسام آفاق المستقبل والغد القريب سيستها دولة سورية متجددة قادرة على المشاركة في السباق العالمي نحو العلم والتحضر والتقدم.

ريم ديب

تصفح المزيد..
آخر الأخبار