الإبــــــــــــــداع… التوتـــر العظيــــــم للعقــل

العدد: 9317

21-3-2019

الإبداع هو التوتر العظيم للعقل الذي يبدد كل سر، ويكشف كل غامض، ويجلو كل شبهة، ويمثل العملية الفكرية الأرقى والأكثر تعقيداً، ويشكل منظومة معرفية مشرعة الأبواب والنوافذ في رحلة التخيّل والاكتشاف والمتعة والتوليد والاشتقاق واستنطاق الأشياء الجامدة وتحويلها إلى عناصر متحركة وكأنها نُفخت الروح فيها، والدخول إلى المناطق المحظور الدخول إليها في الوعي واللاوعي للبحث عن المدهش والمتفرد وتحويل المستحيل إلى ممكن، وكما يقول أدونيس: (الإبداع تاريخ يتخطّى التاريخ، لا تاريخ له).
الإبداع عملية تكاملية غير متجزأة، شرطها الأساسي أن يتمتع المرء بقدرة عالية من الذكاء تساعده على تحقيق منجزات باهرة في حقل من حقول المعرفة والفكر والأدب والفن والقدرة على التفكير والعمل وإطلاق أفراس الخيال في الأماكن الخفية من الحياة وترك العنان لها للحفر والبحث عن الحقائق الكامنة وراء الحجب، واصطياد الكلمات والمعاني المدهشة في مجالات لم تستكشف من قبل… عندما سُئل الشاعر الكبير (ت. إس. إليوت) عن سر الغموض في شعره قال: (إنه ليس غامضاً، ولكن ربما أمضيت أياماً في كتابة القصيدة، فماذا يمنع القارئ أن يتعب ذهنه لبعض الوقت لفهمها).
المبدع يحفر عميقاً وراء الظاهر وما وراء قشرة المظاهر لكشف ضياء الأسئلة تجاه الوجود ومعانيه العميقة، وللمبدعين نوافذ سماوية منحهم الله إياها يبصرون منها بعقولهم وأفكارهم ويرون الماضي والحاضر والمستقبل ويقفزون خارج المفهومات السائدة ويفتحون سديماً في مخيلاتهم على فضاء من الصور والكلمات والإيماءات والإيحاءات، ويلاحقون تجليات العوالم الجوانية للنفس البشرية، وينبئون على ترف المخيلة في رنينها الخاطف والغامض والصاعق، فما قيمة الدول والشعوب بدون مبدعين، فهم بوجودهم وبمختلف اختصاصاتهم يعطون شعوبهم ميزة وقيمة عالية، غابرييل غارسيا ماركيز حَلَّق وغردَّ في سماء أمريكا اللاتينية كلَّها واستحمّت أفكاره النقية بماء الخلود.
المبدعون ثروة وطنية يفهمون لغة واحدة هي لغة العقل والمنطق، يملكون مخيلات ثَرَّة يرضعونها حبر قلوبهم ونبض أنفاسهم ووهج أرواحهم في رحلة البحث والخروج عن المألوف واقتناص اللحظات المسروقة من بؤبؤ الزمن المحال ونبش كلّ شيء مهمل في الحياة، ينقبون رأسياً وأفقياً بذائقة مدربة على الفك والتركيب والتأويل، يقول نزار قباني (عندما يموت مبدع كبير، كأنما كوكب خرج عن مساره).
المبدع ليس غايته المتعة بل إنتاج ما هو في أشدِّ الحاجة إليه، هو الاستثمار الإنساني الأمثل الذي تطمئن إليه الأمم على حاضرها وتضمن به مستقبلها الذي يقرأه بالاستفادة من تجارب الماضي وحيثيات الحاضر تحدوه رغبة عارمة بالانفلات من إطار العقل والكون وتوازنهما الصارم، يطلق لخياله العنان ويخترق فكرة الجمود المكانية ويعمل في اللا متحقق ويحفر في الأقاصي وينحت في الصعب غير المدرك ويبحث في ثنايا الأشياء لاختلاس أجوبة على أسئلة غير موجودة.
الموهبة هي منبع الإبداع الأول، مصدرها خصب الشعور وتحليق الخيال وتركيز العقل لتبديد كل سر وجلاء كل مبهم، وتفجير اللغة وتطويع المعنى في مطاردة الجري وراء الأفكار الجميلة المضنية والبحث عن السحر الكامن في الكلمات، يمدّ المبدع سهولاً ويحفر ودياناً من المعلومات المشوقة الحميمية ويفتح أنفاقاً سرية يغوينا باتباعها، وقد حلَّقت روايات ماركيز بأجنحة من الخيال في فضاء الواقعية السحرية الراسخة، وتُوِّجَ على عرشها كشمس ساطعة أدمنت الإشراق.
الشعر رحلة في المستحيل وعدو نحو الأبدي وتشوّق كبير لرؤية القابع في السرمدية، والشاعر قادر على استنباط الجمال من وسط يفور بشاعة وقبحاً، يتشبث بالكلمة العميقة مُنقباً، جَوَّالاً، متفجراً، ضَاجَّاً، صاخباً، مُشاكساً، مستسلماً لنداء الشعر وأقاصيه الرحيبة، يطرز الكلمة الشعرية نضارتها وألقها ويسبك الذهب في قوالب الحروف، حتى تغدو بين يديه عجينة بشكلها كما يشاء، ويتلاعب بها، يضعها حيث يريد، يقدمها، يؤخرها وكأنه أحاط بأسرار اللغة وشواردها، ويتكثف النص ويرتحب ويتلاقى المدى الشعري والرؤي في شهقة اللفظة ودهشة الفكرة، قصائد المبدع الشاعر الإسباني الكبير بابلو نيرودا (1904-1973) الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1971 كانت حماسية وتكشف نزعة التمسك بهموم الإنسان والسعي لتجاوز المحن والتبشير بولادة جديدة تحلم بترميم ما خربته الحروب والقذائف المجنونة والأيدي العابثة التي لا تعرف قيمة الإنسان والحضارة والمستقبل.
الإبداع ينصب على خدمة الإنسان وليس أذيته، وهو ثروة بديلة وقيمة مضافة للأشكال التقليدية للثروة كالأرض والعمل ورأس المال، ومعيار لتقدم الدول، والأمم التي تركز على استثمار مواردها البشرية تفوق سرعة تطورها الدول التي تهمله.

نعمان حميشة

تصفح المزيد..
آخر الأخبار