مواسم الضياع…

الوحدة : 14-1-2022

لا أدري لماذا رائحة النرجس في برلين مختلفة إلى هذه الدرجة، إنها لاتشبه رائحة النرجس البلدي الذي يميز شتاء الرستن في حمصنا العدية..

رائحة النرجس في الغربة معلّبة، كما كل شيء آخر، كالطعام والهواء والحب والجنس…

اقتربت من السيدة جامدة المشاعر لأشتري باقة، فتذكرت وجه محمد نور بحبوح، بائع النرجس الذي ظل يجوب أحياء المدينة والجامعة حاملاً سلة النرجس ليبيعها، لقد علمت لاحقاً أن الإرهابيين منعوه من قطاف الأزهار والنزول إلى حمص، كنا ننتظره على أبواب الجامعة لنحصل منه على زهرة الشتاء الوفية وهو ينادي: النرجس للعشاق والحلوين.

باقة صغيرة مؤلفة من خمس أو ست زهرات كانت تختزن عطر العالم فيها.

كان وجه السيدة الألمانية خالياً من ملامح الحياة، فلم أمنع نفسي من القول بالعربية بصوت مسموع وأنا مطمئنة إلى أنها لن تفهمني:

وجه يقطع الرزق… أعوذ بالله منك.

لتفاجئني بالرد: أنتَ واحد قليل أدب، لا يعرف كيف يتكلم بذوق.

أنا متزوج واحد سوري وأعرف عربي كويّس.

وددت لو تبتلعني الأرض في لحظة واحدة، وهربت من أمام المرأة بعد أن غسلتني ومشطتني بالشتائم كما تقول نساء قريتنا.

ظهر رجلٌ عربي الملامح من العدم، تحدث إلى المرأة بلباقة واعتذر منها واشترى نرجساً قدمه لي بعد أن لحق بي إلى شارعٍ مجاور.

شكرته ولم أعرف كيف أبرر موقفي، لكنه ضحك وأدخلني في متاهة حديث آخر ليخفف عني..

مضى وقت ونحن نتجاذب  أطراف الحديث ،وكأن واحدنا لم يصدق لقاء الآخر… أو ربما لقاء آخر أي آخر.

أحببت لهجة أحمد الحلبية، حتى لغته الألمانية كانت منكّهة بذلك..

عندما وضعت النرجس في كأس ماء  بالقرب من نافذة غرفتي ، شعرت فجأة أنه بدأ يكتسب بعضاً من رائحة أحبها…

تجاهلت الفكرة وبدأت أعد وجبة سريعة قبل عودتي للعمل.

من معيدة موفدة لدراسة الأدب إلى نادلة في مطعم بنصف دوام ونصف راتب ونصف حياة.

أي حمقاء أنا غادرت وطنها وحلمها وأهلها لتتشارك الحياة مع رجل خذلها وطلقها مع أول إغراء.

لم تكن  طريقة خروجنا من البلد سهلة ،لقد أنفقنا كل مدخراتنا لنحصل على فرصة عيش جديدة بعدما صارت ساحات حمص ،ميادين لإزهاق الأرواح..

نعم فقدت عائلتي على أيدي مسلحين عاثوا دماراً في قريتنا، فصار خطيبي رابطي الوحيد بالحياة وفي ألمانيا تغيرت تفاصيل حكايتنا وأرواحنا.

عندما انفصلنا وقد خضع لإغراء المال، وتعامل مع جهات أجهلها لصالح الجماعات التي شردتنا من أوطاننا، شعرت أني سأذبل قريباً وأنطفئ، سأنكسر مثل حلم زجاجيّ هشٍّ، سأتساقط مثل زهر النرجس بعد إزهار وإشراق، لكن فجأة انبعثت من جذوري بصيلات جديدة للضوء.. وأدركت أنني أنبت حيث أشاء، فليس للهوى  مؤقت زمني عاجز… إنه الزمن الأبدي للروح  تعشق متى وحيث تشاء، فلا الغياب  يمحو تفاصيل الذكريات.. ولا الحضور البارد يروي شغف الأشواق.

وهكذا صار حضور أحمد الدافئ يضفي رائحة النرجس على الأماكن التي نرتادها، تماماً كصوت نايه المجروح… عشقه للموسيقا وعشقي للأدب، وغربتنا وزواجه الفاشل من صديقته الألمانية، وأشياء أخرى جمعتنا ،دفعتنا للإصرار على العمل وإعادة بناء الذات.

فجأة ..صارت شوارع برلين تنبض بالحياة، ووجوه ناسها الباردة تتدفق بالجمال… كان صوت ناي أحمد يشق طرقات جديدة في حياتي الوعرة.

استيقظت صباح جمعة شتوية باردة على رنين الجوال المتواصل، كان رقم فؤاد زوجي السابق، لم أرغب في الرد فتجاهلت الاتصالات المتكررة، لكنه فاجأني برسالة، كتب فيها:  لا تظني أنه يمكنك استبدالي بآخر، هل هذا هو الأحمق الذي تركتني لأجله…. إنه يعمل معنا… إنه  يشبهني… خائن وضيع… أليس هذا ما وصفتني به؟!

دارت بي الدنيا وأنا لا أريد التفكير سوى في أنه كاذب لعين، لا يمكن لفنان برقة أحمد أن يؤذي عصفوراً، فكيف سيشارك في سفك دماء أبناء شعبه، لكن سرعان ما اختصر فؤاد الزمن علي وأرسل صوراً تجمعه مع أحمد وأشخاص آخرين باعوا أنفسهم رخيصة.

لم أرغب في مواجهة أحمد بأي شيء، أصابتني حالة من القرف، لم أتمكن من الرد على اتصالاته، ما الذي يمكن أن يقال، وأي خذلان أشد من هذا؟!

أرسل لي … لم ينكر .. اعترف بكل شيء… لكنه أحبني كما ادعى، وطلب أن نفصل السياسة عن الحب.

أخبرني أنه خائف علي… ولا يمكنه أن يتركني وحيدة أواجه كل هذا الوجع… أرسل يطلب فرصة جديدة ليقف إلى جانبي …

فكتبت إليه رسالة أخيرة:

(أتيت في وقتٍ متأخر للحبّ، وعجزت عقاربُ قلبك المتباطئة عن اللحاق بمواسم عشقي ، تركتني للريح ..لكن لا تخش على روحي من جحود روحك….

أنا كالنرجسِ أزهرُ في الصقيع..

لا تكترث لِما سيحلّ في غيابك…

النرجس يختزن في ذاته ما يكفي ذاته…

وإن ذبل قلبي من خيانة قلبك

فلن أنزع أوراق حزني…

سأستمد منها ما يمنحني ولادةً جديدة…

ارحل .. وذرني للريح…

فروحك ما عادت تستوعب ألق روحي..

ألم أخبرك أني كالنرجس…

والنرجس لا يزهر إلا في إناءٍ عميق..).

كانت مدينة الرستن تنتظرني لأضع زهور الشتاء الوفية على قبور أفراد عائلتي…. عدت فارغة اليدين من كل شيء حرفياً، لكن قلبي امتلأ بالفرح وأنا أرى محمد نور بحبوح حاملاً سلة الزهر ليبيعها في أحياء حمص بعد أن عاد إليها الأمن والاستقرار.

نور نديم عمران

تصفح المزيد..
آخر الأخبار