الوحدة 26-11-2021
على جناح الحب أفئدة تعانق, وذاكرة تلح, تسابق الغيم وتسرق الأكوان في إسراء عاشقٍ, قد تعرج على منعطف تحط رحالها, فتحيل الدروب المقفرة إلى أغنية ورؤى مطرزة على هدب يمسح قسوة المسافة ويحيلها ولهٌ دائم ينشد روحه عند كلّ حنين… المغتربة الكاتبة والشاعرة فيروز مخول ابنة دمشق الأصيلة ما زالت تعبئ ياسمينها في قارورة عطر وتنشر شذاها على جناح الغيم . فيروز فضل الله مخول ابنة دمشق ولدت فيها عام 1964ودرست فيها حتى أنهت دراستها الجامعية في قسم الرياضيات والفيزياء بكلية العلوم، بدأتْ بالكتابةِ في سنٍ مبكّرةٍ خلالَ دراستِها الثانويّةِ والجامعيّةِ، سافرت إلى السويد وتقيم فيها منذ سنوات طويلة, ولأن الروح لابد أن تحمل معها الوطن الذي انسكب على صفحات يوصل الأحلام بالمرتجى ,علّ نسيم عليل أو بارد أو صقيع يحمل السلام والشغف والعشق في كل وقت, وهو ما دأبت عليه فيروز مخول لتوشم دمشق عند كل تنهيدة يصل صداها إلى مدارات تحمل الشجن شعراً فكان لها من الكتبُ الشعريّةُ (خربشاتُ روحٍ) صادر عن دارُ ليندا للنشر والطبع والتوزيع – السويداء- سوريا 2018، (راقصُ الريحِ) عن دارِ كيوانَ للطباعةِ والنشرِ والتوزيعِ/ دمشق، (عشقٌ ثلاثيُّ الأبعادِ )عن دارِ كيوانَ للطباعةِ والنشرِ والتوزيعِ/ دمشق. ولها مخطوطاتٌ قيدُ الطبعِ: “لا تخبروا الغيابَ عنّي/ شعر، نحنُ الرمادُ / شعر، ورواية ( نهاراتٌ غائمةٌ ) تدور أحداثها في دمشق. وكل هذه الإصدرات حصلت على موافقة وزارة الإعلام واتحاد الكتاب العرب في سورية, كما أنها تنشر نتاجها الشعري في الأسبوع الأدبي و الموقف الأدبي التابعين لاتحاد الكتاب العرب في سوريا ,إضافة إلى أنها ترأستْ إدارةَ العديدِ من الجمعياتِ والمنتدياتِ الأدبيّةِ، كمنتدى همساتِ القمرِ، وحديثِ الياسمينِ، كما عملتْ في مجلّاتٍ متنوّعةٍ كمجلّةِ الفنونِ، والثقافةِ العراقيّةِ، كما أنَّها أسّستْ مجلّاتٍ إلكترونيّةً، وساهمتْ في تنشيطِ الحراكِ الأدبيّ الشّعريّ، عبر نشر نِتاجها في الكثيرِ من المطبوعاتِ الأدبيّةِ في الوطنِ والمهجرِ. ونُشرِتْ نصوصُها ضمنَ مختاراتٍ من الشّعرِ الحديثِ في موسوعةٍ ضخمةٍ بثلاثةِ أجزاءٍ ، ضمّتْ أسماءَ شعريّة عربيّة, كما صدر لها كتابان بالاشتراك مع شعراء وأدباء عرب في بغداد، وأقامتِ العديدَ من الندواتِ واللِّقاءاتِ الثقافيّةِ، والأمسياتِ الشّعريّةِ خلالَ عملِها كمسؤولةٍ ثقافيّةٍ في جمعيةِ المرأةِ السّوريّةِ في ستوكهولم، ولها مشاركاتٌ أدبيةٌ متعدّدةٌ في إعدادِ مجلّةِ السّلامِ الدوليّةِ (الموسوعيّةِ) التي تَصدِرُ منذُ عشرةِ أعوامِ في السّويد باللغةِ العربيّةِ، وتعملُ في النادي السوريّ التابعِ للاتّحادِ العامّ للمغتربين السّوريين بالعاصمةِ السّويديّةِ ستوكهولم. *ولأن الدروب كلها توصل إلى القلب, كان لنا هذا الحوار علّه يدفئ بعضاً من غربة لكنه يعانق سورية الحبيبة عند كل حرف :
– في البدء كانت الكلمة تحمل الصورة، والصورة تقبض على الكلمة، وهذا الخطاب الإنساني الكامن بينهما!.. من يسبق الآخر في الإفصاح عن الكلمة وإبصار الصورة- الشعر، ومن خلال تعريفه المبسط هو تمازج لغوي صورّي، تعبر الكلمة فترسم صورة شعرية، وهذه الصورة تولد الطاقة التعبيرية بشكل تجعل من اللغة نصاً تعبيرياً قادراً على رسم معالم البوح وخلق ملكة الإصغاء، اللغة تفّجر الكائن الشعري، تنثر شظاياه، والسّر يكمن في تحويل الشذرات إلى صورة، فلغة الشعر تعيد ترتيب المفردات بحيث تؤدي دورها كمعنى ضمن بنية متماسكة كي تمنح المتلقي صور شاعرية يحلق معها نحو آفاق اللغة المفتوحة على أكثر من تأويل وأكثر من معنى.. بالتالي هي عملية تفكيك، و القراءة محاولة جادة لإعادة التركيب و بشكل أخر، ومن هذا يمكننا القول إن الحالة الكتابية هي عملية مزج قابلة لأكثر من قراءة كون النص وسط غير ثابت، وله أكثر من زاوية رؤية، وأكثر من تأويل وتفسير.
.. *- بين علم الرياضيات المقونن وعوالم الشعر المنفلتة من كل المعادلات، من منهما صاغ الآخر في تكوين فيروز مخول؟ –
سؤال طريف.. شكراً لك على طرح هذا السؤال،.. نعم دراستي الجامعية للرياضيات، وهو علم لا يقبل الزيادة أو النقصان، فلكل رقم و لكل قوة و لكل معادلة بنية مادية متماسكة، هو علم صلد، صلب لا يقبل الإغواء والمراوغة، ربما كانت كتابتي للشعر هروباً من مادية وصلابة الأرقام و الأحجام و الأطوال وهذا لا يعني إن الشعر عالم فوضوي، لا قواعد له، فالشعر طاقة ناتجة عن التأمل والخيال المستمد أو المنطلق من معايشة واقع ما، والرياضيات تشترك و تتقاطع مع الشعر في هذه النقطة و التي تعتبر ركن الزاوية في قضايا الممارسة الشعرية، فالرياضيات نتاج فلسفة تأمل، والخيال البشري المبدع كان وراء كشوفات علمية مذهلة والشعر يمتلك حرية الغوص في اللغة، وحرية تشكيل عوالَ أكثر طراوة و جمالاً، و لم تكن علوم الرياضيات إلا دعماً وسنداً للشاعرية، لا ننسى أبداً إن للشعر قوانينه وأوزانه و إيقاعاته و قواعده الصارمة أيضاً وخاصة إذا توجهنا للشعر الموزون المبني على قواعد و قوانين لا تقل صرامة عن قانون” لافوزيه” في المعادل الكيماوي. *-
الشعر مكاشفة للواقع وللحلم …،كيف توصفين الشعر في صيرورة الفرد وأمته؟ –
الشعر انعكاس للواقع وهو لسان حال الفرد المبدع في تكوين و تشكيل العالم، هو محاولة لإعادة بناء واقع أجمل وأكثر نقاءً، الفردانية أو طغيان الذاتية في الكتابة الشعرية هي تعبير عن موضوعية الحياة و واقعها بكل تراجديتها و مآسيها و ملهاتها و تناقضات الحياة ما بين السعادة و التعاسة، الأمل والتشاؤم، الوجع والراحة، الموت و الحياة.. ثنائيات تُصّيِّر هكذا هي صيرورة الشعر.. إنها كالمطر تنبت العشب في الأرض اليباب. *- دمشق الحاضرة دوما على سطور قصيدتك وبين ثناياها.. عن البعاد عنها، كيف تصير ملامح دمشق وتبدو؟ – :الشام، آواه يا شام.. يا دمشق ,ربما، بل تأكيداً تبقى دمشق المنطلق والغاية، هو المكان وهي الرحم، هي اللغة، هي تاريخ كامل من الحب و العشق هي سيرة ذاتية لكل من نهل من ماء “فيجتها” ولكل من تعبق بأريج ياسمينها، دمشق هي كل قصائدي وكل دواويني، راقصتها مع الريح و أعلنت لها عن عشقي بأبعاده المثلثة و خرجت من رمادها صوتاً شعرياً يتنفس رغم الغياب،.. هكذا يمكنني تعريف الشام في لغة كتاباتي.. هي باختصار حكاية عشق لم ولن تنتهي
-ما بين سورية والسويد، أيهما ينتصر؟ دفء الروح أم صقيع الأماكن؟
كيف يمكن للرحم ألا يكون إلا دافئاً، بلدي سوريا منحني الاسم.. منحني فيروز ما لهذا الاسم من معان، فيروز الصوت الذي تستيقظ الشام عليه، الصوت الدافئ الذي نترنم معه الحياة، وفيروز فناجين قهوة الصباحات، وفيروز الحجر الجميل المدهش، هذا الانغماس ليس نرجسية وإنما هو أحد إشراقات الروح التي تتجلى لي كونني ابنة سوريا و ابنة الشام، أما السويد كمكان إقامة هو امتداد لإقامتي في بلدي، فالسويد رغم برودة طقسها وصقيع الغربة ألا أنها منحتني الأمان وفرصة للتأمل ورؤية العالم من مكان أخر ومختلف، فالأماكن دوماً تشحن الروح وهي محطات نجتازها، نتذكر أمكنة سبق أن خطونا في دروبها، كثيرة هي المرات التي أنسى نفسي وأنا أسير في شارع ما، واكتشف فجأة أنني هنا في استوكهولم و ليس في أحد شوارع دمشق أو أحد تلك الأزقة الدمشقية التي مازالت إيقاع خطواتي ترج في ذاكرتي وأنا اقطعها مشياً من باب توما إلى القيمرية
*- من ديوانك ( راقص الريح) وفي قصيدة( عربدة اللامعقول ) من مطلعها تقولين: “من استأصل/ من رحم ذاكرتي القديمة/ وعبث بظلالها “. – ماذا تقولين ونحن الشعوب العربية التي تتهم دوماً بأنها تعيش بماضيها لاغية حاضرها ومستقبلها؟ –
:أعود للاستطراد، ربما كان جوابي في السؤال السابق يحمل بعضاً من الإجابة حول هذا السؤال، الذاكرة هي حالة إنسانية، بل نعمة للإنسان و نقمة أيضاً، مثلها مثل النسيان، والعودة للذاكرة أو للماضي هي ليست حالة نكوص أو حالة ضعف وإنما هي طاقة وقوة تمنحنا القدرة على رؤية المستقبل وتفكيك الواقع المعاصر الحالي بما يحمل من بؤس و شقاء و وجع، ولا اعتقد أن هذه حالة خاصة يتهم فيها العربي قبل غيره، فكل الأفراد ومن كل الشعوب تمارس هذه الذاكرة، فلكل شعوب العالم تاريخها و مناهجها الدراسية، فهي تعيد قراءة التاريخ لفهم الحاضر و لاستقراء المستقبل، فمن ينكر ذاكرته و يحكم عليها بالنسيان لن يكون له وجود، وهذه ربما قاعدة فلسفية مستمدة من جوهر فهمنا للتاريخ و للماضي واحترامنا لذاكرتنا الفردية أكانت أو الجمعية أيضاً. *-. في دواوينك، تكثر الريح وتعصف بكلماتك كثيراً، متى تهدأ عواصف الفكر المتناحرة عندنا نحن العرب؟ -:الريح بمعناه الفيزيائي أو العلمي هي طاقة تحريك، وطاقة تجديد، فكما تهز الريح أغصان الشجر، وتعصف بالحقول، وتدفع بالمراكب وتمنح البحر أمواجه، هكذا الريح أيضاً تعصف بروح نصوصي الشعرية وتجعلها متحركة لا تقبل الثبات أو السكون.. فلا هدوء للفكر طالما هو قوة، فلا يمكن أن نستمر إزاء حالة جمود في الفكر، فالريح ستبقى عاصفة، وان كان يغريها النسيم ببعض الهدوء كي نلتقط أنفاسنا.. *- ما هو الحضور الأدبي العربي عموماً والسوري خصوصاً في السويد، وكيف يتم تنظيم الفعاليات؟ –
:العرب عموماً، والسوريون بخاصة أثبتوا وجودهم الحضاري المعرفي في كل جهات الأرض، هنا تجّد الطبيب السوري أو العربي و المهندس والعالم و الرياضي و الأديب و الشاعر و الفنان ولكن للأسف الإعلام غائب عن المتابعة، وأيضاً العمل الإبداعي لم يتم تنظيمه ضمن منظمات أو جمعيات، وإنما الأمر متروك للإمكانيات الفردية التي استطاع بعضها الوصول للعالمية من خلال كتاباته أو رسومه أوعن طريق نشر موسيقاه، ونعمل حالياً على تنظيم العمل ضمن تأسيسنا لجمعية ثقافية اجتماعية رغم وجود بعض الجمعيات لكنها عاجزة عن لملمة الفوضى، وإعادة إنتاج العمل الجماعي، فالأفراد لا يمتلكون قدرة الجماعة، وهذا أمر علينا الاعتراف به، فالجمعيات التي سبق لها التأسيس تعاني من الترهل و الكسل، ولابد من تجديد نشاطها بدفق دماء جديدة، وبروح جديدة خاصة و كما قلت لك هنا في السويد طاقات و قامات ثقافية عالية ولها مكانتها و اسمها، فالأدب المهجري وقبل قرنين من الزمن استطاع تشكيل ملامح عامة لجنس أدبي من خلال قامات مثل جبران و مخائيل نعيمة و زكي قنصل وغيرهم، وحالة الهجرة مستمرة و الاغتراب، وتنظيم لقاءات دورية بين أبناء الوطن الواحد سيحقق نوع من الظهور و الاهتمام و مزيداً من الأسماء و الكثير من الإبداع..
– الحنين ،ذاك المكنون في عالم الغربة ، مع فوارق الثقافة العربية والغربية، كيف يتمازجان وماهي السمات التي يوشمها على الملامح والتفكير والفعل عند العربي؟ –
:الحنين مفردة لغوية لها المكانة العالية في نصوصي، فالحنين احد سمات شخصيتي، فأنا كإنسانة أحن و أشتاق، وربما لكل إنسان درجة معينة من الحنين، فلا يمكن لأي فرد أن يشطب هذه الحالة من روحه و ذاكرته، ربما الحنين أو حالة ممارسة الحنين لدى الأوربي تأخذ أبعاداً أو اتجاهات غير التي نسلكها، الحنين لدي هو توغل في تفاصيل صغيرة، هو محاولة بناء لكياني الشخصي و الشاعري. الحنين وصمة دافئة، لها لون و رائحة و طعم..، الحنين يعبر عن ذاته عبر بوح نقي دافق لا يرتوي من الحاضر، إنه نزيف أنيق له أناقة الشعر و جمال الصورة، ودفء حضن الأمهات اللاتي غادرن العالم، ومازالت صدى كلماتهن ترن في جدران صومعتي الشعرية على المستوى الشخصي، تعال معي نمنح أنفسنا حرية ممارسة الحنين بنكهة الأمل و الحب رغم كل البوس والألم.
*- سورية وهذا الألم الطويل الذي ألم بها عبر هذه السنوات ، كيف صاغته فيروز مخول وصاغها ؟
-:النزيف الممتد من الوجع السوري، ذاك النفق المظلم الذي دخلته سوريا، أو الذي حُشرت به، كل ذاك الصخب الإعلامي الذي رافق دوي المدافع و القصف، مناظر المهاجرين، و طوابيرهم و الضحايا و الموت و القتل، وتلك الأرواح التي سلمت أمرها للرب في عرض البحار طلباً للأمان و منهجاً للخلاص ,كل تلك المفردات صاغها الشعر بصور تحمل الألم و الأمل. .كانت لسوريا و لأوجاع وطني في أتون الحرب النصيب الأكبر من تجربتي الشعرية، حيث نزفت كلماتي، وسالت مدامعي كلما سال حبري فوق بياض الورق.. ستنتهي الحرب و نعود نكتب عن نقاء الياسمين، فالحرب رغم وحشيتها لم تستطع أن تطفئ بياض الياسمين، و كان الياسمين يعرش على أكتاف جدران الشام، ولم تغب صورة الوطن أبداً من المشهد الشعري، وربما في كل قصيدة كتبتها أو نشرتها،الشعر ليس تقريراً صحفياً و الشاعر ليس مدوناً للتاريخ، وإنما هو روح فراشة تحترق عشقاً و التزاماً بقضايا الوطن و الإنسان و الحرية.
سلمى حلوم